د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

عالم ما بعد 11 سبتمبر... ماذا بقي؟

طالما شكل تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 لدى كثير من دارسي العلاقات الدولية خطاً فاصلاً بين عالمين؛ ما قبل وما بعد. وفي جزء من هذا القول صحة وقبول بمعايير هيكل النظام الدولي وتفاعلاته، لا سيما ما يتعلق بأولويات وقضايا النظام الدولي، أما باقي المعايير، لا سيما هيكل القوى، فلم تعرف تغيرات رئيسية إلا بعد مرور عقد على الأقل من تلك الهجمات التي نالت من رموز اقتصادية وسياسية أميركية، حيث أصبحت الصين منافساً اقتصادياً قوياً للولايات المتحدة، وصار النفوذ الروسي في الشرق الأوسط ووسط آسيا مقلقاً للغرب، وهما تحديان لا علاقة لهما مباشرة بقضية المواجهة الدولية للإرهاب، وإنما بآليات اقتصادية وعسكرية في المقام الأول.
أحد أهم التغيرات التي نالت من أولويات النظام الدولي بعد 11 سبتمبر 2001 تعلقت بنشوء قضية مكافحة الإرهاب باعتبارها محدداً رئيسياً لحركة الفواعل الدولية. الإرهاب في ذلك التوقيت ركز على منظمتين رئيسيتين؛ وهما «القاعدة» بزعامة أسامة بن لادن، وحكومة «طالبان» التي كانت تحكم أفغانستان باعتبارها إمارة إسلامية بزعامة الملا محمد عمر.
وكان الشعار الرئيسي الذي رفعته إدارة بوش الابن بسيطاً في تعبيراته عميقاً في نتائجه وتداعياته، وهو شعار «من ليس معنا ليس منا»، وهو ما أسس تقسيماً للعالم إلى اتجاهين؛ أولهما من يناصر الولايات المتحدة ويقبل أطروحاتها في مواجهة من تعتبرهم إرهابيين أو يقدمون لهم الملاذ والمأوى والسند والدعم، وثانيهما من يرفض الأطروحة بكاملها أو لا يتحمس لها فيعد بالضرورة إرهابياً أو مناصراً للإرهاب ويستحق العقاب الأميركي.
هذا الشعار أسس نوعاً من الاستقطاب السياسي والعسكري على النطاق العالمي ككل، وبينما قبلت بعض الدول منطق الحق الأميركي في الانتقام من فاعلي هجمات 11 سبتمبر، في حدود عملية عسكرية تأديبية، فإنها لم تصل إلى حد تبني الرؤية الأميركية على إطلاقها، وبدت كأنها في نقطة وسط. في الإطار ذاته، عرف العالم ذلك التساؤل الشعبوي الذي طرحه عدد من السياسيين والمثقفين الأميركيين، وهو «لماذا يكرهوننا»، وهو السؤال الذي حاول أن يثبت إجابة بأن عنف الإسلامويين هو ضد الحضارة والتقدم والديمقراطية ونتاج لتخلفهم وتعصبهم. وهو ما رد عليه مجموعة من المثقفين في العالمين العربي والإسلامي؛ بنفي فكرة دور الإسلام في عنف بعض المنتسبين إليه، وربط بين مظالم الحقبة الاستعمارية وتعثر التنمية كسبب محتمل للعنف، الذي لا يحتمل عنفاً مضاداً وكاسحاً كالذي نادت به إدارة الرئيس بوش آنذاك.
الشعارات الجديدة والحوار السياسي - الفكري المُصاحب لها كانا تعبيراً عن تغير مهم في قضايا النظام الدولي، التي استمرت حتى اللحظة، ولم يعد الأمر مرهوناً بمواجهة أميركية ذات طابع انتقامي، بل بمصالح مجموعة كبيرة من الدول. ففي عالم اليوم، لا يكاد يوجد بلد أو مجتمع يخلو من مواجهة تنظيم أو أكثر يرفع شعارات دينية من أجل الوصول إلى السلطة من خلال هدم المجتمع والنظام العام. كثير من هذه المجموعات أو التنظيمات الإرهابية العنيفة هي وليدة التشرذم الذي أصاب «القاعدة» بعد أكتوبر (تشرين الأول) 2001؛ حيث بدأت العمليات العسكرية الأميركية مدعومة بمساندات دولية رمزية للإجهاز على «القاعدة» وعلى نظام «طالبان» معاً. وهو تشرذم نتج عنه تحول في طبيعة القيادة وفي أساليب العمل، وملخصها الاتجاه نحو اللامركزية في القيادة وانتشار الفروع في البلدان والأقاليم المختلفة، بل وميلاد أفرع أكثر شراسة وعنفاً، مع تبرير ذلك بتفسيرات دينية ممزوجة بشعار إنشاء الخلافة الإسلامية على أي أرض يحدث فيها التمكين سواء بالعنف أو بالرضا من ساكني تلك الأرض، وهو ما طبقه تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، ومن قبل كان فرعاً لتنظيم «القاعدة» بزعامة أبو مصعب الزرقاوي، الذي بايع أيمن الظواهري في عام 2004، ولكنه انقلب على فكر «القاعدة» لا سيما ما يتعلق باستهداف عوام الشيعة بالعراق وأولوية قتال العدو القريب، أي السلطات المحلية، وفرض الولاء على السكان وتشكيل نظام إسلامي وفقاً لتفسيراتهم. ومجمل تلك التطورات أن النظام الدولي عرف فواعل من غير الدول، تهدف إلى هدمها وهدم النظام الجامع لها.
وأصبحت المواجهة توصف بـ«اللا متماثلة»، حيث الدولة بمفهومها التقليدي ضد فاعل غير معترف به، ولكنه يعبر الحدود ويسعى إلى تشكيل دولة خاصة به على أنقاض الدولة الوطنية.
في هذا السياق، أصبحت «مكافحة الإرهاب» محدداً دولياً له ما يبرره ولكن ليس بالمنطق الأميركي لإدارة بوش الابن، وإنما بمنطق الحفاظ على الدولة الوطنية التي باتت مستهدفة من فروع «القاعدة»، سواء ظلت على تمسكها بمبادئ التنظيم الأصلية أو طورتها وعدلتها بشكل أو بآخر. أيضاً حدث تحول مهم في الاستراتيجية الأميركية، وهو ما يظهر جلياً بمقارنة أداء الرؤساء الأميركيين السابقين، سواء الجمهوريين أو الديمقراطيين، مع أداء الرئيس ترمب. السابقون تحركوا وفق منطق بناء التحالفات بقيادة أميركية لمواجهة التنظيمات الإرهابية التي أصبحت عابرة للحدود وتهدد بلداناً عدة غالبيتها حليفة للولايات المتحدة. صاحبت ذلك جهود أميركية ودولية ومن قبل حلف الناتو لإعادة «تأهيل» المجتمع الأفغاني ليصبح قادراً على التحول إلى حياة مدنية ولديه نجاعة ذاتية ضد آيديولوجية كل من «طالبان» و«القاعدة»، وهما الحليفان فكرياً وسياسياً ودينياً.
ما درجت عليه إدارة الرئيس ترمب في السنوات الثلاث الماضية ضرب كثيراً من الأسس المُشار إليها. فتحت مبرر بناء سلام في عموم أفغانستان، جرت المفاوضات مع ممثلي «طالبان» للاتفاق على انسحاب جزء كبير من القوات الأميركية.
وجوهر هذه المفاوضات، سواء تم توقيع اتفاق أم تم تأجليه، يتعلق بتغير الموقف الأميركي تجاه «طالبان»، التي لم تَعُد في عُرف إدارة ترمب مصنفة إرهابية، بل حركة سياسية يمكن التعامل معها ولو بضمانات معينة، ويُسمح لها أيضاً بالعودة إلى الحكم، وهنا يوجد التباس غير محدد، هل تعود للحكم منفردة كما كان وضعها في ظل إمارة أفغانستان الإسلامية؟ أم تعود شريكاً في الحكم في ظل دولة أفغانستان بدستورها التعددي الذي يقر بتداول السلطة وحقوق المرأة؟
مفاوضات كهذه تجهز على مبدأ التحالفات الدولية بقيادة أميركية، في الآن ذاته نلمح إلى أن مكافحة الإرهاب كسياسة موروثة من حقبة 11 سبتمبر، لم تعد تركز على «القاعدة» كأولوية، بل على تنظيم «داعش». وفي السجالات الأميركية الأكاديمية والسياسية انتقادات كثيرة لمثل هذا الفصل بين «داعش» و«القاعدة»، فكلاهما يتفق على أن الولايات المتحدة هي العدو الأكبر، وهي مركز الجهاد، وفقاً لتفسيراتهما.