هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» وتنوير العقول

دشنت هذه المؤسسة الصاعدة مقرها الجديد الكبير في حي أكدال الشهير بالرباط العامرة. وهو يطل إطلالة رائعة على العاصمة المغربية من كل الجهات. وقد رافق التدشين إقامة ندوة عن الموضوع التالي: «الدين وأسئلة الفكر الراهن». وقد شارك فيها فهمي جدعان وحسن قرنفل والسيد عبد الله ولد أباه. وتلتها بعد يومين فقط ندوة أخرى بعنوان «الدين والإشكالات الفلسفية الراهنة». وقد شارك فيها محمد بن محجوب ومحمد نور الدين أفاية ويوسف بن عدي. بالطبع يصعب التحدث بشكل وافر عن كلتا الندوتين اللتين لم يتح لي للأسف الشديد إلا حضور أولاهما. ولكن من العناوين يلاحظ المرء مدى حرص هذه المؤسسة على تحمل مسؤولية الواقع العربي الصعب والمحاط بالأخطار في الوقت الراهن. كما يلاحظ المرء مدى اهتمامها بتعميق فهم الدين من خلال إقامة المقارعة الخصبة بين الفكر الديني والفكر الفلسفي. وهذا يعني أنها تريد تنوير العقول بشكل يخدم مصلحة الدين الإسلامي وتراثه الطويل العريض. ولكن هذا لا يمكن أن يحصل إلا بعد تنمية الفكر الفلسفي وإعادة الاعتبار له بعد تكفيره ونبذه طيلة قرون وقرون. على الأقل هكذا أفهم مشروع هذه المؤسسة الكبيرة التي أصبحت بحجم العالم العربي مغربا ومشرقا وإن كان مركزها الأساسي هو المغرب الحضاري العريق. فمنه تنطلق لكي تشع بندواتها ومحاضراتها ومنشوراتها ومجلاتها على كل عالمنا العربي المترامي الأطراف. ماذا فهمت من هذه الندوة؟ لقد تحدث لنا الدكتور فهمي جدعان عن الفرق بين الصورة المثالية للأديان/ وتجسداتها التاريخية على أرض الواقع. فالدين في مبادئه العليا المثالية قائم على فعل الخير والشفقة والرحمة بالعباد. ولكن نلاحظ أن بعض أتباعه المتطرفين يمارسون العكس تماما. فقد حولوا الدين إلى آلة حرب وعنف وقتل واغتصاب وقهر. وهذا ما أنزل الله به من سلطان. وربما تكمن هنا أكبر مشكلة تواجه العالم العربي والإسلامي كله. ولكن هذا لا يقتصر علينا وإنما يشمل الآخرين أيضا. فالكراهية تكاد تدمر العالم. إنها تدمر إنسانية الإنسان وترده من حالة الآدمية إلى حالة الوحشية. إنها ترجعه إلى الحالة البهيمية ما قبل الثقافية. والكاره كما يقول الدكتور فهمي جدعان يسبح في عالم من اليقينيات المطلقة. وقد ذكرني ذلك بعبارة عميقة جدا لنيتشه: «ليس الشك وإنما اليقين هو الذي يقتل!». فلو كان الداعشيون يشكون لحظة واحدة في يقينياتهم الدوغمائية المتحجرة لما تجرأوا على كل هذا الذبح والقتل المجاني. ولذا فالحل الناجع يكمن في «أرخنة» النصوص والوقائع القديمة التي يحتجون بها لخلع المشروعية الدينية على أعمال العنف والكراهية. ولكن المشكلة هي أن الجهة المضادة تقتل أيضا وبعنف غير مسبوق. فضحايا المحرقة النازية الذين ما ينفكون يتشاكون ويتباكون حولوا غزة مؤخرا إلى محرقة! وبالتالي فنحن محاصرون بالمحرقات والكراهيات من كل الجهات. بل وحتى البوذيون المعروفون بالمسالمة والوداعة مارسوا العنف في بورما. ينتج عن ذلك أنه ينبغي أن نطرح إشكالية الدين والعنف من أوسع أبوابها. كان المفكر الفرنسي رينيه جيرار قد كرس حياته لدراسة موضوع العلاقة بين «المقدس/ والعنف». ثم جاء محمد أركون من بعده ووسع الإشكالية لكي تصبح دراسة العلاقة بين «المقدس/ والحقيقة/ والعنف». وهذا ما يدعوه بالمثلث الإنثربولوجي: أي الإنساني الموجود في كل الأديان والمجتمعات. وهذه مسألة ضخمة سيكرس لها الباحث حسن العمراني رئيس تحرير مجلة «يتفكرون» عددا خاصا قريبا.
أنتقل الآن إلى المداخلة القيمة التي قدمها الدكتور حسن قرنفل عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة شعيب الدكالي بمدينة «الجديدة» الساحرة. وقد انطلق قائلا بأن الدين يشكل الموضوع الأساسي للمثقفين العرب اليوم. ولكن ليست هذه هي حالة المثقفين الصينيين أو اليابانيين أو سواهم. بل ومثقفو الغرب إذا ما تحدثوا عن الدين فإنهم يركزون على دراسة الإسلام أكثر من المسيحية. بمعنى آخر فإن الإسلام أصبح موضوع الساعة شرقا وغربا وعلى المستوى الكوني كله. ويسجل الدكتور قرنفل تراجع تأثير المثقفين العرب المحدثين على الرأي العام وصناع القرار قياسا إلى المشايخ والدعاة الجدد. وربما كان ذلك عائدا إلى تراجع قراءة الكتب في العالم العربي. لقد حلت محلها وسائط جديدة هي الفضائيات والإنترنت. وشيخ واحد من شيوخ الفضائيات يستطيع أن يلهب حماسة الآلاف المؤلفة وربما الملايين. فماذا يستطيع المثقف العربي الحديث أن يفعل أمامه؟ والشيء اللافت الذي قاله الدكتور قرنفل لنا هو أن الفضائيات الدينية أصبحت تجارة رابحة بشكل هائل. فأحد الدعاة يكسب سنويا من دروسه الدينية التي تخدر الشعب مليونين ونصف المليون دولار! ويزور موقعه على الإنترنت شهريا مليونا زائر لكي «يستضيئوا بعلمه الجم» أقصد «بالجهل المقدس» الذي يبثه على مدار الساعة. وقائمة الأثرياء أصبحت تضم أسماء مشايخ كبار ودعاة جدد. لقد تحولوا إلى نجوم تلفزيونية بالمعنى الحرفي للكلمة. والسؤال المطروح هنا هو التالي: لماذا لا يستطيع المثقفون العرب استخدام الفضائيات لترويج الأفكار التنويرية مثلما يفعل دعاة متخلفون لترويج الأفكار الظلامية؟ في الواقع أن هناك سببا جوهريا وقاهرا لا حيلة لنا به، على الأقل في المدى المنظور. فموضوع الدين حساس جدا ولا يمكن لأي مثقف تنويري أن يتحدث عنه بحرية على شاشات التلفزيون. بل لا يتجرأ على فتح فمه مجرد فتح. يُصعق في أرضه فورا وربما يُقتل. يُداس بالأقدام والنعال. يصبح في خبر كان وأخواتها. ولذا يظل الموضوع حكرا على أناس يصولون فيه ويجولون مرددين نفس الكلام المكرور منذ مئات السنين. وهنا بالضبط يكمن الانسداد التاريخي للعالم العربي الإسلامي، وهو انسداد شديد الاحتقان، وقد يفجر العالم كله قبل أن ينحل!