د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الحرية المالية

تعرّف الحرية بأنها القدرة على العيش بمستوى معيشي مرضٍ دون الحاجة إلى العمل أو الاعتماد على الآخرين مادياً. وبحسب هذا التعريف فإن معنى الحرية المالية يختلف من شخص لآخر، فالبعض يجد أن الحرية المالية هي الاكتفاء بدخل يحقق العيش الكريم من مأكل ومشرب ومسكن وبعض رفاهيات الحياة، بينما يرى البعض الآخر غير ذلك بحسب نظرته لرفاهيات الحياة. وبكل الأحوال، فإن الحرية المالية تعد هدفاً للكثير من الناس، ليصلوا إلى أن يكون الهدف من العمل هو تحقيق الرضا الذاتي فقط، دون أن يكون المال هدفاً من ورائه.
وتتعدد المراجع من كتب ومقاطع مسموعة ومرئية توجه نصائح للناس بكيفية الوصول للحرية المالية، ويغلب الطابع التجاري على كثير من هذه الكتب، على طريقة «كيف تصبح مليونيراً في خمس سنوات»؟، أو «كيف تتقاعد قبل الأربعين؟»، وهذه النماذج من المراجع، لا تخدم مفهوم الحرية المالية، بقدر ما تجعله وهماً يلاحقه الناس لبعض الوقت قبل أن يقنطوا من الوصول إليه. ذلك أن الوصول إلى الحرية المالية يحتاج إلى الكثير من المصارحة مع النفس، وإلى الشفافية والدقة في معرفة تفاصيل المصروفات الشخصية، يرافقها التزام صارم بالمصروفات، وليست بالسهولة التي تذكرها بعض المراجع. وكثيراً ما يحتاج الشخص إلى مستشار مالي لإعطاء النصائح المناسبة بحسب الدخل والمصاريف، والنصائح التي توفرها بعض هذه المراجع قد لا تناسب الجميع، فقلما يتشابه الناس في مرتباتهم ومصروفاتهم ومخططاتهم المستقبلية، والهدف من الاستماع إلى المستشار المالي هو الوصول إلى خطة مالية مستقبلية توضح للمدّخر كيف ستكون حالته المادية في المستقبل سواء كان القريب أو البعيد. وعادة ما توفر البنوك لعملائها مستشارين ماليين يسدون لهم النصائح والمشورات للتخطيط لمستقبلهم المالي.
إلا أن الاطلاع على بعض هذه المراجع مفيد جداً لمعرفة بديهيات السلوك المالي الذي سوف يتبعه الشخص في طريقه نحو الحرية المالية. وتوفر هذه المراجع نصائح منها تحديد الميزانية الشهرية بحسب الدخل، لا بحسب المصروفات، والمتأمل في هذه النقطة يجد أن الكثير من الناس ينفقون مرتباتهم بشكل عشوائي بحسب ما لديهم من مصروفات، سواء كانت ضرورية أو لا، لتنفد مرتباتهم بحلول منتصف الشهر. وحينها يبدأون في استهلاك رصيد بطاقاتهم الائتمانية، منفقين من رواتبهم المستقبلية، من نقود لا يملكونها. والبطاقات الائتمانية هي إحدى النقاط التي تلتفت لها مبادئ الحرية المالية، حيث تعطي هذه البطاقات إحساساً زائفاً بامتلاك المال لمستخدميها، وهي قد صممت أساساً على هذا المبدأ وبمعرفة بالسلوك المالي للإنسان؛ حيث لا يمانع الشخص في إنفاق مبلغ إذا كان سيدفعه في المستقبل. وبسبب هذا السلوك، انتشرت البطاقات الائتمانية وعمليات البيع بالتقسيط بكثرة، حتى مع كونها تكلف أكثر من النقد، بسبب رئيسي هو تفضيل الشخص الدفع في المستقبل بدلاً عن الوقت الحاضر.
والمتأمل في الحرية المالية وتعريفها، يجد أنه بشكل أو بآخر، متّبع لخطة توفر له هذه الحرية، فبرامج المعاشات والتقاعد كلها تستند على فكرة أن يصل الشخص إلى الحرية المالية بحلوله سن التقاعد، وحينها يحصل على حاجته الشهرية من المال دون الحاجة إلى العمل باستقطاع مبلغ شهري محدد من مرتبه. وفي حال الرغبة بالوصول إلى الحرية المالية في سن أبكر من التقاعد، أو احتياجه لمبلغ يزيد على مرتب التقاعد، يتوجب على الفرد أن يستقطع بدوره مبلغاً من مرتبه سواء للادخار للطوارئ، أو للاستثمار طويل المدى، وبحسب سن التقاعد الذي يرغب فيه الفرد، يستطيع معرفة ما يحتاج ادخاره أو استثماره بشكل شهري. وسهلت وسائل التواصل الاجتماعي الوصول إلى بعض هؤلاء المستشارين، ممن قد يسدون النصائح سواء في سبل الادخار أو قنوات الاستثمار. ويمكن بعد ذلك للشخص - بحسب قدرته - وضع خطته المالية المستقبلية سواء بنفسه أو من خلال مستشاره المالي، إلا أنه وبكل الأحوال لا غنى له عن وضع هذه الخطة.
إن مبدأ الحرية المالية هو أحد المبادئ التي يجب نشرها لزيادة الثقافة المالية في المجتمع، وإلا فإن المجتمع سيصبح استهلاكياً ومديناً بسبب استسلامه للحملات الإعلانية التي تشجع على الشراء، في وقت يستحيل أن يوجد فيه إعلان واحد يشجع على الادخار والتخطيط للمستقبل المالي. وهذه مسؤولية حكومية واجتماعية في غاية الأهمية، ومن دونها فإن أفراد المجتمع سيعيشون من المرتب إلى المرتب وبرصيد صفري! وكثير من الناس في الوقت الحالي لا يستطيعون العيش لأكثر من شهر في حال تأخرت مرتباتهم أو فقدوا أعمالهم، وهو ما يجعل المسافة بينهم وبين خط الفقر لا تزيد على رضا جهات العمل، التي قد تخضع لتقلبات الاقتصاد أو حتى لمزاج المديرين.