جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا من القمع إلى نهب الأموال

لم تكن عصراً ذهبياً، كما يزعم، مبالغةً، كثيرون. لكنها، كانت فترة متميزة تاريخياً. والذين عرفوا مدينة طرابلس، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو من ظل على قيد الحياة منهم، ربما يلتفتون، الآن، بعيون الحسرة، إلى الخلف، مقتفين أثر خطواتهم في شوارعها، وحواريها، مدركين أن فرصة تاريخية كانت جاهزة للقطاف - لاعتلاء درجات سلم حضاري، والارتقاء مدنياً وحضرياً، ليس فقط بمدينة طرابلس، بل بكل مدن ليبيا، وبخاصة الساحلية منها - قد ضاعت، أو بالأحرى، ضُيّعت، لدى تحرك العسكر، واستحواذهم على السلطة في سبتمبر (أيلول) عام 1969، وتحويلهم البلاد، خلال سنين قصيرة، إلى معسكر كبير، وسجن أكبر.
كانت طرابلس مدينة بتألق بياضها، وجاذبية زرقة بحرها، وخضرة بساتينها، مضمومة على نفسها، كمشموم فل، وكانت رغم صغرها تنبض بقلب كبير، متسامح، متسع لأهلها، ولكل من ارتضى الإقامة بها، واختارها موطناً. لذلك؛ كانت، ديموغرافياً، متعددة الألوان، ولغوياً متعددة الألسن، وإثنياً متعددة الأعراق، ودينياً كانت الابتهالات، والدعاء، والصلوات لله، تُسمَعُ، وتُرى، صاعدة نحو السماء، بلغات عدة، وبقلوب مؤتلفة.
خلال سنوات قليلة، من حكم العسكر، بدأ الطابع التعددي في الاختفاء، على المستوى الإثني العرقي، وعلى المستوى اللغوي، وبدلاً من تعدد الألوان في شوارعها، بدأت المدينة تلتحف لوناً واحداً، لون الزي العسكري، وتنظر، بشكٍ وريبة، إلى الغرباء، القادمين من وراء البحر، أو من وراء الحدود المجاورة. وبدأ سور من العزلة يضرب من حولها، فهرمت، في أعوام قليلة، ولم يعد في قلبها مكان إلا لمن أحنى هامته ولاء للنظام، أو من اختار العيش معزولاً في الظلال، خشية على حياته. ولم يكن غريباً أن تزدحم المنافي بالليبيين، الذين أحسوا بالاختناق سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، ولم يجدوا أمامهم سوى البحث عن ملاجئ آمنة، تتيح لهم التنفس بحرية، وممارسة إنسانيتهم، تحت سماوات غريبة.
تلك المرحلة كانت من الصعوبة بحيث لا يسهل توصيفها في هذه السطور. كانت مرحلة مرهقة دفعت بالمدينة، وبكل البلاد، بوسائل القمع، إلى الخروج الاضطراري من سياق التحضر والمدنية والتعدد إلى نفق الاستبداد، والتعود، مكرهة، على العيش مع ديماغوجية اللجان الثورية، وفساد اللجان الشعبية، وابتذال الإعلام، وتفريغ الثقافة من محتواها وحشوها بمحتوى رديء. ولعل أبرز ما وسم تلك المرحلة تحويل المدارس والكليات الجامعية إلى ثكنات عسكرية، يقودها معلمون ضباط، بتعليمات وتوجيهات من القيادة في باب العزيزية، وإهمال العملية التعليمية، وحرمانها من الدعم المالي اللازم لتطورها. زد على ذلك، إلغاء تعليم اللغتين الإنجليزية والفرنسية؛ مما أدى إلى إصابة البلاد بالإعاقة علمياً، ولغوياً، وحضارياً. وقاد إلى تنشئة جيل فقير عقلياً، وضحل تعليمياً، وبلا لسان. بمعنى أن إلغاء تعليم اللغات الأجنبية في المدارس، مضافاً إليه الإهمال في دعم العملية التعليمية وتطويرها جعل أبناء ذلك الجيل يعيشون على الهامش لغوياً. فلا هم أجادوا لغتهم العربية، ولا عرفوا غيرها من اللغات، في وقت أغلقت فيه المكتبات العامة، وحولت مقارها إلى عقارات لسكن المحسوبين على النظام، أو إلى مخازن، ومتاجر، وأغلقت الأبواب في وجوه الصحف والمجلات العربية والأجنبية، وتحولت الصحافة ووسائل الإعلام المحلية إلى أبواق دعائية جوفاء، وصودرت الكتب، وأغلقت المراكز الثقافية الأجنبية والعربية، والتركيز، رسمياً، على إبراز ثقافة البادية مقابل تهميش ثقافة المدينة.
ورغم سقوط النظام، وانهيار أركانه، والقضاء على رأسه، فإن ليبيا لم تخرج بعد من ذلك النفق الذي اقتيدت إليه، مكرهة، منذ ما يزيد على أربعة عقود زمنية. وبدلاً من محاولة الخروج، ومعانقة ضوء النهار الفصيح، والتمتع بالحرية، أدخلت البلاد، مكرهة أيضاً، في أنفاق أخرى، أشد عمقاً، وعتمة، وأكثر استنزافاً وتهديداً للحياة، وللثروة، وللبلاد والعباد، وطال تأثيرها السلبي حتى البلدان المجاورة، ووجد المواطن الليبي نفسه في مواجهة مع ظروف سياسية مختلفة، وظروف معيشية أكثر صعوبة، وصارت حياته، وحيوات أفراد أسرته مهددة بالموت، وبيته عُرضة للتدمير، وماله عُرضة للنهب والسرقة في وضح النهار.
ما يسمى بالصراع على السلطة، صار يعني في السياق الليبي، بعد فبراير (شباط) 2011، السيطرة على المصرف المركزي. والحروب المتعددة التي شهدتها، وتشهدها البلاد، لا علاقة لها باختلاف مذهبي، أو فلسفي، أو ديني، أو جهوي، بين الأطراف المتحاربة. ولا علاقة لها بحرية، وتأسيس دولة مدنية وديمقراطية. ولا علاقة لها بتحسين مستوى حياة المواطنين، بل بغرض وهدف واحد لا غير، وهو الاستحواذ على ذلك القصر، الذي بناه الإيطاليون، مُطلاً بواجهته وأعمدته وقبابه على البحر، وصار مقراً لمصرف ليبيا المركزي، ومستودعاً في خزائنه ما يعود على ليبيا من أموال مبيعات النفط.
حرب الغنائم، المتواصلة منذ سنين، لا تعرف توقفاً أو نهاية؛ لأن جشع الأطراف المتحاربة، وسعيها للاستحواذ على المال العام، لا مكان في صفحات معجمه لكلمة توافق، ولا لمصطلحات مثل تفاهم، وتفاوض، واتفاق. وكل ما يهم كل طرف هو القضاء على بقية المنافسين، والوصول إلى مكمن الغنيمة، والاستحواذ عليها. وليس أمام بقية الليبيين سوى الانتظار، واستهلاك مخزونهم من الصبر.