يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

عرس الزين السوداني: من مناخ الثورة إلى منطق الدولة

«كان الزين يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما. ضحكته هي هي لا تتغير»، وكأن الأديب الراحل يصف الشخصية السودانية في عفويتها وبساطاتها وإيمانها بالحياة رغم الصعوبات.
في كتابه «الشخصية السودانية... دراسة أنثروبولوجية» الذي يقرأ فيه د. محمد الطالب ملامح الشعب السوداني الذي يحمل مكانة خاصة في البلدان العربية بعفويته وطيبته ودماثته التي لا تخطئها العين... ليس بالضرورة أن تشمل تلك الملامح كل أفرادها إلا أن تاريخ شعب ما وتحولاته المجتمعية والسياسية تكون مع مرور الوقت سمات متجذرة تصبغ عادات الشعوب وسلوكها لتكون تلك الشخصية تميزها عن شعوب أخرى، أو بحسب تعبير دوركهايم ما ينتج عن تفاعل عناصر البيئة مع الوجود الاجتماعي والثقافة السائدة وانعكاس ذلك على «العقل الجمعي» كجزء من الانتماء العضوي.
ظل السودان أحد أكثر الشعوب إدهاشاً في انتمائه الوطني واندماج مكونات شعبه الذي يشكل الإسلام واللغة العربية مركزية بجانب مركزية الوسط السياسية إلى الحد الذي صبغ معه الجنوب المندمج في تلك الثقافة اللاوعية كاللباس. الجنوبيون المنتمون للمسيحية تعبر عنهم الذات القومية فينطقون بلفظ الشهادة تعبيراً عن الغضب والدهشة، كما تصر قبائل أخرى «عرب جوبا» بالتحدث بلهجة هجينة بين المحلية والعربية المكسرة.
وربما كان فشل النخب الشمالية أدى إلى شعور الجنوب بالأقلية في فترات زمنية متعددة، لكن شره الإسلام السياسي الذي جسده نظام البشير كان المعول الذي شق الجنوب عن الشمال، ذلك الانفصال تحول إلى مظلومية مستحقة نفذ من خلال القوى الغربية لأسباب إنسانية وحقوقية وكثير من الأطماع التي عززها استئثار «الكيازين» (لقب أنصار الإسلام السياسي) بالسلطة وفشلهم في الحفاظ على التنوع.
وحدهم السودانيون كانوا يشكلون المزيج من العفوية والتسامح كجزء من الهويّة القومية «الأفروعروبية» الخلاسية في امتزاجها والروحانية في زهدها وعدم اكتراثها بالمظاهر تأثراً بالطابع الصوفي الذي يشكل جزءاً من الثقافة أبعد من مفهومه الديني... هذا المزيج لا تخطئه العين في السودان بينما تختار بلدان أخرى تتأرجح بين خياري الجغرافيا والثقافة.
تقريباً في 2010 زار الراحل الصحافي عمر المضواحي المنفرد في كتابة القصة الصحافية حين يلتقط ببراعة وجمال المخبوء في وجوه الناس والأمكنة، السودان وكتب نبوءته «إنهم يستحقون أكثر من هذا العدم المتاح... رقعة الشطرنج السياسي في السودان تخفي حياة مجتمع مؤمن بغد أفضل». إيمان السودانيين صدح به البسطاء بسلمية استحالة نشيداً، وأخرجت «قوى الحرية والتغيير» الشباب الذين خشي الجميع أن تأخذهم سكرة الشهرة والثورة التي أطاحت بنظرائهم في بلدان أخرى ورغم الأخطاء منهم ومن البعض في المجلس العسكري في البدايات التي هي جزء من طبيعة المناخات الاحتجاجية إلا أنهم عادوا إلى ذلك الإيمان بالغد الأفضل، وقدم كل طرف التنازلات التي لا تعني خيانة في الشخصية السودانية المتسامحة، قدر أنها جزء من حالة «الرضى» غيبت مكر السياسة.
في السياسة من الصعب جداً الركون إلى اللحظات التاريخية أو النهايات السعيدة التي شارك السودانيون فرحهم بها الشعب العربي كله رغم اختلاف مواقعهم وخلفياتهم ورؤيتهم السياسية، ورغم قربي ومعرفتي بالشعب السوداني الذي أكن له محبة كبيرة وأشعر بالامتنان لكثير من رموزه الصحافية والأدبية التي عرفتها على مدى عشرين عاماً، فإني أدرك أن جزءاً من الشخصية القومية السودانية هو حساسيتها من النقد الذي بدا واضحاً في مواقف قيادات وناشطي «قوى الحرية والتغيير» على مواقع التواصل الذين عبروا عن امتعاضهم من التحليلات والقراءات لمسار الأحداث منذ اللحظات الأولى إما بزعم التدخل أو المقارنة بوضعيات أخرى.
والحال أن ما آلت إليه الأوضاع في السودان من الاتفاق الذي باركه الجميع إلا أن التحديات التي تهدد ذلك النجاح السلمي كبيرة لأسباب منها أهمية السودان بموقعه الجغرافي ومساحته وموارده وجيرانه، كما أن الثورة على نظام البشير والقطيعة مع نظامه، حالة مغايرة لكل الثورات المندرجة تحت مسمى «الربيع العربي» الذي لم يعبر ولن يعبر عن أي حالة متجانسة، فضلاً عن أوهام قياسه على طريقة الانتماء المتوهم للثورات تاريخياً.
الثورات لا تتشابه والتاريخ لا يعيد نفسه وليس كما يقال عادة من باب البلاغة الأدبية حين تتشابه الظروف، وبحسب جيمي اليسنون في بحث فريد يقرأ الثورات الجديدة ما بعد الربيع العربي بينما هناك من لا يزال عالقاً في الباستيل يتحدث عن خمسة أجيال من الاحتجاجات، أربعة معترف بها على المستوى الأكاديمي في علم الاجتماع التاريخي، بينما نشهد اليوم ولادة جيل خامس يتسم باللامركزية ولا يمكن فحص هياكل الفاعلين فيه، كما أنه متحرر من كل القيود البنوية التي يمكن قياسها؛ إحدى سمات هذه «الثورات» وهو يفضل تسميتها بالتحولات الاجتماعية السلمية، أو بحسب آصف بيات المرجع الذي يعود إليه كثيراً «ثورة بلا ثوار» اللحظة الليبرالية التي تتفرد بتشكيل مشهد العالم اليوم، فالثورات السابقة تأثرت بالمفهوم التقليدي للثورة الذي دشنه اليسار ونظر له الماركسيون والذي ارتبط بمفهوم «العنف الثوري» وتلقفه لاحقاً الإسلام السياسي فدمج بينه وإنْ بطريقة لا واعية وبين أدبيات الخروج على الحاكم والإنكار الذي يتجاهل التفريق بين مستويات الدولة والوطن والأمة والنظام الحاكم وجسدها في شخص الرئيس.
تلاحظ نظرية الثورة الخامسة أن السلمية قد لا تقترح أي برامج مسبقة للتحول الاجتماعي ولا تبني على واقع الأحزاب السياسية التقليدية المعارضة للنظام، وهذا ما فسر في الحالة السودانية ارتباك حزب الأمة وعرابه الصادق المهدي وانسحاب الحزب الشيوعي في اللحظة قبل الأخيرة ما قبل الاتفاق، وبات اليوم الثوريون على منصات التواصل يكيلون الاتهامات لقوى التغيير وبشكل انتهازي جسده القيادي بالجبهة الثورية محجوب حسين بتغريدة قال فيها: «قوى الحرية والتغيير باتت أعداء للبهجة الثورية».
وكما أن هذا النمط الجديد من الاحتجاجات في السودان وربما تلحق به الجزائر غير مأخوذ بالقيادات الثورية وإنتاجها. كذلك لم يفلح أنصار الإسلام السياسي في اللحاق بالصف الأول لكنهم قادرون على إعادة تحريك الدولة العميقة التي خلفها البشير وعبر عنها أحد أكثر الشخصيات الراديكالية التي يتم تلميعها في «الجزيرة» وحسابات المتذمرين من الاتفاق السوداني كتب عبد الحي يوسف أن الاتفاق لم ينص على مكانة الشريعة أو دورها في المرحلة المقبلة، فكان رد الشباب المتذمر من تلك الانتهازية أن ذكره برحلاته وخطبه في ليبيا الداعمة للتنظيمات المتطرفة.
وبإزاء «قوى الحرية والتغيير» التي حافظت على السلمية، يحسب للمجلس العسكري إدارته للمرحلة سواء على مستوى أخذ القرار ضد تجار الأزمات الذين حاولوا ولا يزالون التقليل من شأن النجاح في السودان بعبارات التشكيك وتصيّد الأخطاء التي سارع المجلس العسكري إلى الاعتراف بها والاعتذار عنها ووعد بالمحاسبة وأعاد خدمة الإنترنت في الوقت الذي أحبط فيه خمس محاولات انقلابية.
التحدي الأكبر للسودانيين هو المسارعة في تحسين الأوضاع والالتفات إلى مطالب الشارع الأساسية المتصلة بتحسين الأوضاع بعيداً عن الغرق في تفاصيل سياسية مهما كانت مهمة ستذروها رياح الانتهازيين بأجنداتهم في أول انتخابات قادمة.