مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

في العمران والديمقراطية

هل تحدد طبيعة المكان وطريقة تنظيم المدن شكل النظام السياسي، وهل هناك علاقة بين العمران وطبيعة نظام الحكم، سواء كان هذا الحكم ديمقراطياً، أو تسلطياً، أو منزلة ما بين المنزلتين؟ تجلت لي هذه العلاقات مع أول زيارة لي لألمانيا، وربما يعود ذلك إلى فكرة العين الطازجة (fresh eye) عندما يباغت المكان عينك للمرة الأولى.
استوقفني في أول زيارة لألمانيا ما جرى من تعديل على مبنى الرايستاج الذي أعيد ترميمه بعد الحريق التاريخي عام 1933 بعد شهر من أداء هتلر القسم كمستشار لألمانيا. حريق الرايستاج من قبل الشيوعيين الألمان منح هتلر مبرراً لمصادرة الحريات وبدأ الحكم النازي بكل قوة. تم إصلاح ما أفسده الحريق بشكل جزئي في الفترة من عام 1961 - 1964، ثم جاء الترميم الكلي بعد وحدة ألمانيا في الفترة من 1995 حتى 1999؛ حيث تمّت الاستعانة بالمعماري الشهير نورمان فوستر للإشراف على الترميم. ورؤية فوستر في الترميم هي التي استوقفتني في محاولة فهم علاقة العمران بالديمقراطية وفضاء الحرية. الحرية كما هو مفهوم والديمقراطية كنظام حكم شكلتا رؤية فوستر في عملية الترميم، أي كيف يحول الرايستاج (قصر الحكم والقيصر) ‏في ألمانيا، إلى البوندستاج أو البرلمان. ولم يكن أمامه سوى أن يفتح رئتي المكان‏، بإضافات جديدة ومنها القبة الزجاجية‏، ليحول معمار المكان من تجهم الديكتاتورية إلى انفتاح الديمقراطية‏، من مكان للفرد إلى مكان للمجموع‏، ومع ذلك فالذي يقارن هذا المبنى التاريخي الضخم‏، أيا كانت تعديلاته‏، مع البوندستاج أو مبنى البرلمان في بون، الذي اكتمل بناؤه عام ‏1992، لا يفوته أن يلاحظ الفرق بين معمار الديمقراطية وبين معمار الديكتاتورية وما بعدها من معمار سلطوي تتجسد فيه كل معاني الاضطهاد المتمثل في ثقل العمارة وانغلاقها‏، فمعمار جونتر بينش‏ المتمثل في برلمان بون هو مبنى يتسم بالشفافية والتنفس الديمقراطي المريح‏. ورغم محاولة نورمان فوستر في تعديل المبنى الديكتاتوري القديم فإنه يظهر ثقيلاً على الروح البشرية ومجهداً للجسد أيضاً. ‏
والمقارن للبنايتين في بون وبرلين يستطيع أن يرى بشكل رمزي التحولات الآيديولوجية الألمانية وانعكاساتها على العمران‏، من تخطيط مدن وبنيان وعلاقة الزمان الآيديولوجي بالمكان‏، وكذلك انعكاساتها على العمارة، كما أسلفت في حالتي برلين وبون‏، تلك التحولات كانت موضوع حوار غني جرى في الساحة الألمانية حول علاقة المعمار بالديمقراطية‏، وتساءل البعض عن علاقة الأنهار بالحكم وبالديمقراطية‏. وخير مثال لذلك المجتمعات الهيدروليكية (المائية) مثل مصر التي يسهم النهر فيها برسم ملامح النظام المركزي الذي يعد التحكم في مياه النهر أساساً له. في الحالة الألمانية كان هناك حوار عن الأنهار والمجتمع الديمقراطي، خصوصاً عندما نقلت العاصمة من بون على نهر الراين‏، إلى مدينة برلين حيث يطل البرلمان على نهر صغير يسمى سبري‏، وينطقه الألمان ‏(‏اشبغي‏).‏
الحوار الأوروبي عن علاقة العمران بالقيم والمفاهيم الحاكمة، قلما تجده في الفورات الثورية في العالم النامي أو ما بعدها‏، إذ يأتي نظام ثوري فيركب على عمران رجعي‏، دونما تغيير في المساحات أو اتساعاتها‏، لذلك وفي معظم الأحيان‏، يأتي التغيير الثوري شكلياً‏، وكأنه طلاء جديد براق ولامع‏، على إقطاعية مثل الطلاء الفضي الذي تراه على قبة. جامع محمد علي باشا في القلعة، عمارة بنيت في زمن غابر تعكس علاقات اضطهاد للروح والجسد معاً‏.‏ فرجال ثورة يوليو في مصر مثلاً استخدموا القصور الملكية وجعلوها دوراً للحكم، مثل قصر عابدين وقصر التين وسراي القبة، الخ... التحولات الآيديولوجية في أغلبها أتت بتغيرات عمرانية تعكس فكرها وعلاقات القوة فيها‏، فلا يستقيم للعقل أن يجلس القائد الثوري في قصر الملك «الخائن المخلوع»‏، قد يعطي هذا الإيحاء‏ رمزية لعودة المسلوب من مال الشعب‏، ولكنه على المدى البعيد يرسخ فكرة الملكية ذاتها‏، فيصبح الثوري ملكاً‏، ليس بقصد ولكن لأن المعمار يتلبسه كما يتلبس الجن الجسد، فيغريه برؤية مغايرة للنفس وللعالم التي تخلق وعياً تراتبياً للقوة تعكس العمران وتتفاعل معه‏.‏ وللحديث صلة.