علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

«الهوى دون أهله»

ذكر علي شلش في حديثه عن غيرة سيد قطب من عبد الله القصيمي وسخطه على أستاذه عباس محمود العقاد، حينما كتب الأخير افتتاحية في مجلة (الرسالة) أشاد فيها بكتاب الأول (هذه هي الأغلال) معلومتين هما: أن القصيمي في مثل سن سيد قطب، وأن القصيمي لم يكن من ضمن الشباب الذين يعرفهم العقاد معرفة وثيقة، ذكرهما ليشير إلى أنه بسبب هذين العاملين فإن غيرة سيد قطب من القصيمي كانت غيرة مضاعفة وسخطه على أستاذه كان سخطاً مضاعفاً، مما دفعه إلى أن يكتب مقاله الحاد (غفلة النقد في مصر).
وللدقة؛ فإن القصيمي لم يكن له معرفة أو صلة شخصية بالعقاد، وهذا مما فاقم أثر العامل الثاني في نفس سيد قطب المجروحة. فالقصيمي أيام مؤلفاته الدينية السلفية كان مناهضاً للاتجاه العصري التحديثي في فهم الدين والتاريخ الإسلامي الذي كان يمثله في ثلاثينات القرن الماضي التيار الليبرالي؛ لذا فهو لم يسع إلى إقامة صلة شخصية بالعقاد أو بسواه من الأدباء الليبراليين، لأنه كان منغلقاً على اتجاهه الديني السلفي.
هذا التدقيق يقودنا إلى عامل ثالث أوغر صدر سيد قطب على القصيمي وأثار حنقه على العقاد، وهو أن القصيمي قبل كتابه (هذه هي الأغلال) لم يكن اسمه معروفاً جيداً لدى الأدباء والمثقفين المصريين، فاسمه كان معروفاً قبل تأليفه هذا الكتاب على نحو جيد عند مشايخ السعودية وعند مشايخ الأزهر بسبب تأليفه عام 1931 كتاب (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية) الذي جادل فيه حين كان طالباً في جامع الأزهر، يوسف الدجوي عضو هيئة كبار علماء الأزهر، وهو الكتاب الذي تسبب في فصله من الدراسة في هذا الجامع، وبسبب تأليفه عام 1934 كتاب (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) الذي جادل فيه أيضاً الشيخ الدجوي وشيوخاً أزهريين آخرين. واسمه معروف جيداً عند السلفيين في مصر الذين كان حجمهم في ذلك الوقت ضئيلاً، وعند خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخصوم ابن تيمية وخصوم السلفيين عموماً، وكان من أبرزهم الشيخ التركي الشركسي الذي كان يعتز بقوميته الشركسية والذي كان له موقف عنصري من أرض نجد وسكانها محمد زاهد الكوثري. واسمه معروف جيداً عند الشيعة بسبب تأليفه عام 1937 كتاب (الصراع بين الإسلام والوثنية) في جزأين ضخمين، وهو الكتاب الذي رد فيه على كتاب العلامة الشيعي محسن الأمين العاملي (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب) استجابة لطلب الوجيه الحجازي الشيخ محمد نصيف.
وكان قد أعد الجزء الثالث من هذا الكتاب عام 1938، لكنه صرف النظر عن إصداره، لتحولات فكرية اعترت مساره الديني السلفي (راجع كتاب إبراهيم عبد الرحمن «خمسون عاماً مع عبد الله القصيمي»).
أي أن القصيمي بكتابه (هذه هي الأغلال) كان اسماً مستجداً على الوسط الأدبي والفكري الليبرالي، ومع هذا حظي كتابه بإشادة من العقاد واحتفاء كبير من إسماعيل مظهر، وهو «الشرف» الذي انتظره سيد قطب طويلاً لكنه - يا للأسى - لم يحظ به. يقول علي شلش: «ولنا أن نتوقع انتظار قطب للصدى الحسن عند أستاذه يوم ظهر كتابه الثاني الأهم (التصوير الفني في القرآن)، بعد عشر سنوات على ظهور ديوانه. بل لنا أن نتوقعه أيضاً يوم ظهرت ستة أخرى من كتبه (طفل من القرية، والمدينة المسحورة، وكتب وشخصيات، وأشواك، ومشاهد القيامة في القرآن، والنقد الأدبي) على امتداد ثلاث سنوات فقط (1946 - 1948) ولكن شيئا من هذا لم يحدث».
على ضوء المعلومات الثلاث التي سلفت، كتب سيد قطب مقاله الحاد والساخط على النقد والنقاد في مصر، الذين اتهمهم جميعاً فيه بالغفلة، وارتكاب فعل الفضيحة، التي عدها فضيحة لمصر بكبرها! لمجرد - إلى تاريخ كتابته لمقاله - أن العقاد أشاد بكتاب القصيمي، وأن إسماعيل مظهر احتفى بالكتاب وبصاحبه احتفاءً كبيراً. إنه - حقاً - منطق غير سوي. إنه لو اتهم النقاد في مصر بالغفلة، واتهم غفلتهم بالفضيحة، الفضيحة التي لحق مصر عارها، لأنهم لم يتنبهوا إلى عظمة كتبه وعظمة كاتبها، اللتين استناداً إلى هوسه العظامي بنفسه، تستحقان أن تزجى إليهما آيات الإطراء والمديح والتعظيم، لكان صادقاً مع نفسه ومتسقاً مع منطقه غير السوي.
الباحث السعودي السلفي سليمان الخراشي في كتابه (عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى) الصادر في عام 2008، جمع مشكوراً في هذا الكتاب مقالات سيد قطب عن عبد الله القصيمي وعن أغلاله، جمعها كلها فيما عدا - وهو الباحث المستقصي تعقيبه الأخير على موضوع القصيمي وكتابه - ولا أدري إن كان يعلم بأمر هذا التعقيب أم أنه أهمله لقصره أو لسبب آخر.
في هذا الكتاب منذ أول مرة قرأته لفت نظري هامش جد قصير استدرك فيه الخراشي على فقرة من مقال سيد قطب (غفلة النقد في مصر) قائلاً: «ليسوا متزمتين! بل أصحاب غيرة على دينهم وأمتهم».
هذا الاستدراك قاله رداً على قول سيد قطب: «وقبل أن أنهي هذه الكلمة أوجه إلى فريق آخر من المتزمتين لم يقابلوا هذا الكتاب هذه المقابلة، بل ثاروا عليه وناهضوه، وشغلوا أنفسهم بالاحتجاج عليه، وقيل لي إن بعضهم أخذ يؤلف كتباً في الرد عليه. هؤلاء - من غير قصد - في الضجة المفتعلة التي يثيرها الرجل حول كتابه وحول نفسه. هونوا على أنفسكم، فالدنيا بخير!».
لفت نظري هذا الهامش القصير جداً، لأن للتزمت مقاييس ومعايير محددة، وهي تختلف من عصر إلى عصر، وبمقاييس ومعايير العصر الحديث، فإن المشايخ الذين ردوا على كتاب عبد الله القصيمي، كانوا - بالفعل - متزمتين وهذا الوصف ليس بالضرورة يسيء إلى ردودهم ويهمشها.
ووفقاً لتأويل سليمان الخراشي لمعنى كلمة متزمت، فإنه ليقبل بأنه لا يوجد - على سبيل المثال - متزمت شيعي، بل هو صاحب غيرة على دينه وعلى مذهبه الديني. ولا يوجد متزمت مسيحي، بل هو صاحب غيرة على دينه المسيحي وعلى أمته المسيحية، ولا يوجد متزمت شيوعي، بل هو صاحب غيرة على الشيوعية وعلى الأممية الشيوعية، ولا يوجد متزمت ليبرالي، بل هو صاحب غيرة على الليبرالية إلخ.... وليسمح لي - أخي العزيز سليمان - أن أقول إنه كان زميتاً في ذلك التأويل المتزمت.
ولو أردنا أن نقيم شاهداً على تزمته غير تأويله المتزمت هذا لوجدنا شواهد أخرى في كتابه عن القصيمي وفي كتبه الأخرى. وسأكتفي بإيراد شاهد واحد من كتابه عن القصيمي.
يستشهد سليمان بمقال عبد الرزاق محمد حمزة، وهو ابن أحد المشايخ السلفيين الذين ردوا على كتاب (هذه هي الأغلال) بكتاب اسمه (الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال بالعقل والنقل) المنشور في جريدة (عكاظ) الذي كتبه احتجاجاً على سلسلة المقالات عن القصيمي التي كتبها هاشم الجحدلي في هذه الجريدة، وعلى وصفه للقصيمي بالمفكر الكبير! ويعلق على قول محمد عبد الرزاق حمزة في مقاله: «كان هذا عندما ألف الأستاذ خالد محمد خالد كتابه المسمى (من هنا نعلم) والحمد لله أن الشيخ خالد عاد عما جاء في كتابه (من هنا نبدأ) وأخرج كتباً كثيرة أوضح فيها هذه العودة» يعلق على قوله مصححاً، فيقول في الهامش: «الكاتب المصري الشهير، صاحب كتاب (رجال حول الرسول) صلى الله عليه وسلم، تراجع عن فكره العلماني الداعي إلى فصل الدين عن الدولة، إلى فكر منحرف آخر، هو الجمع بين الصوفية والديمقراطية!».
من ناحية الإمكان النظري والعملي يمكن الجمع بين الصوفية والديمقراطية، ففي الغرب الذي هو مهد الديمقراطية هناك أناس منذ قرون يجمعون بين الإيمان الصوفي والإيمان بالديمقراطية، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً وضيقاً وتناقضاً في جمعهم بين إيمانين مختلفين. وهذا الجمع لا يعده الآخرون فكراً منحرفاً لا عن الإيمان الصوفي ولا عن الإيمان بالديمقراطية. وبالبداهة يمكن الجمع بين الإيمان الصوفي الإسلامي والإيمان الشيعي والإيمان الإباضي والإيمان السلفي والإيمان الأشعري والإيمان البوذي والإيمان الهندوسي والإيمان الكنفوشيوسي والإيمان الشنتوي والإيمان المسيحي والإيمان اليهودي... وبين الإيمان بالديمقراطية.
إن لسليمان الحق في أن يتحفظ على تصوف خالد محمد خالد السني المعتدل وأن ينقده، وله الحق أن يتحفظ على إيمانه بالديمقراطية وأن ينقده، لكن ليس له الحق أن يصم فكره بأنه فكر منحرف.
لنفترض جدلاً أن خالد محمد خالد حينما تراجع عن علمانيته وعن ثوريته الدينية، اختار أن يتجه اتجاهاً إسلامياً متزمتاً، أو أن يتجه للتنظير للإسلام ولتاريخه بطريقة تكفيرية، كما فعل سيد قطب، هل سيصم فكره الإسلامي بعد تحوله عن العلمانية السياسية، بأنه فكر منحرف؟!
بالتأكيد لن يفعل هذا. ودليلي على ذلك، حين ترجم لسيد قطب قبل إيراده لمقالاته عن القصيمي، لم ينبس - وهو الحريص على تقويم الفكر الديني وتصويبه من خلال العقيدة السلفية - ببنت شفة بأي ملحوظة دينية سلفية على فكره، رغم أن فكره الديني، منذ كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، بالمعيار السني التقليدي أو الكلاسيكي، فكر بدعي وفكر خوارجي وفكر متشيع، وأنه ثمة مؤاخذات دينية سلفية كثيرة عليه على المستوى العقدي وعلى المستوى الفقهي. كما أنه لم يستدرك في الهامش على مقالات سيد قطب سوى ذلك الاستدراك غير الموفق، رغم أنه يخالفه في بعض ما قاله في تلك المقالات، التي جمع سيد قطب فيها بين إيمانه بالإسلام وادعائه الإيمان بحرية الفكر. والإيمان بحرية الفكر هو في الأصل والأساس إيمان ليبرالي بامتياز.
ولأن (الهوى دون أهله) كما في عنوان لكتاب من كتب حازم صاغية، فلقد فات الأخ العزيز سليمان أن يوجه إلى نصيحة سيد قطب لـ(المتزمتين) بأن لا يردوا على كتاب القصيمي، خمس ملحوظات نقدية، هي أقرب للسداد والصواب وألصق بالموضوعية والمنهجية... وللحديث بقية.