أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

طهران والخليج وإغراق الأسماك

هل تحاول الجمهورية الإسلامية جمع الأصول الجديدة بغية الدخول في حوار محتمل مع الشيطان الأميركي الأكبر؟ من شأن نمط الأخبار ذات الصلة بإيران عبر الأسابيع القليلة الماضية أن يجعل من «نعم» إجابة معتبرة. لقد شنت طهران بالفعل سلسلة من الهجمات على ناقلات النفط في الفجيرة الإماراتية، وبالقرب من شبه جزيرة جاسك الإيرانية. كما أطلق وكلاؤها في العراق حفنة من الصواريخ على أهداف متصلة بالوجود الأميركي هناك. وأدلى الوكلاء الحوثيون الموالون لإيران في اليمن بدلوهم في الأمر عبر إطلاق حفنة أخرى من الصواريخ لرفع حدة التوتر من دون التأثير المباشر على الأوضاع العسكرية العامة في البلاد. وفي الأسبوع الماضي، استولى «الحرس الثوري» الإيراني على ناقلتي نفط ترفعان العلم البريطاني، وقد أطلق سراح إحداهما بعد إظهار صارم للقوة أعقبه تحذير بالغ الشدة.
وكانت طهران قد قدمت روايات متضاربة بشأن ناقلة النفط البريطانية المحتجزة؛ إذ قال رئيس المجلس الإسلامي (البرلمان) الإيراني علي لاريجاني، إن إيران استولت على ناقلة النفط الإيرانية رداً على احتجاز بريطانيا ناقلة نفط إيرانية كانت تحاول كسر العقوبات الاقتصادية المفروضة من جانب الاتحاد الأوروبي على سوريا. ومع ذلك، صرح المتحدث الرسمي باسم الرئيس الإيراني حسن روحاني قائلاً إن الحالتين منفصلتان تماماً، وإن الناقلة البريطانية احتُجزت لدى السلطات الإيرانية لمخالفتها قانون البحار، بصرف النظر تماماً عما يعنيه ذلك!
وفي رواية أخرى ذات صلة، أصدرت طهران أوامرها للفرع اللبناني من «حزب الله» بتعزيز مواقعه بالقرب من خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل في كل من لبنان وسوريا. وعلاوة على ذلك، استقبل المرشد الإيراني علي خامنئي، يوم الاثنين الماضي، وفداً رفيع المستوى من حركة «حماس»، الفرع الفلسطيني لتنظيم «الإخوان المسلمين»، في محاولة لبحث إمكانية الصلاة ليوم واحد فقط في المسجد الأقصى بالقدس المحتلة. كما بعث خامنئي لقادة «حماس» برسالة طمأنينة بشأن مواصلة الدعم المالي الإيراني للحركة على الرغم من صعوبات التدفق المالي التي تعاني منها طهران إثر العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة عليها.
وتعزيزاً للانطباع بأن العقوبات الأميركية لم تجبر طهران على تغيير سلوكياتها كما تطلب إدارة الرئيس ترمب، خرجت وزارة الأمن الإسلامية علينا بمجموعة من الأنباء المثيرة الخاصة بتفكيك شبكة من عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية الذين تسللوا إلى الهياكل الحكومية بالجمهورية الإسلامية وشركات القطاع الخاص الكبرى ذات الصلة بها. وحقيقة أن رواية الوزارة الإسلامية مفعمة بالثغرات والتناقضات تشير إلى عباءة التيه والتفاخر التي اعتادت الزمرة الرسمية الحاكمة في إيران ارتداءها معزِّزةً بها الصورة الصارمة التي ترغب طهران في الظهور بها قبل الخضوع مذعنةً للضغوط الدولية المتنامية.
بادئ ذي بدء، تحدثت وزارة الأمن الإسلامية عن اكتشاف شبكة من المفترض أنها خاضعة لسيطرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من موقع مجهول. كما زعمت الوزارة في تصريحاتها أن تلك الشبكة كانت جزءاً من جهود مبذولة حديثاً من قِبل السيدة جينا هاسبل، مديرة الاستخبارات المركزية الأميركية. كذلك، ووفقاً للروايات الأولية بشأن القضية، فإن عملاء الشبكة المشار إليها كانوا قد تلقوا تدريبات رفيعة المستوى على تقنيات التخابر والتجسس، وكانوا مزودين بأجهزة بالغة التقدم في نقل المعلومات إلى الخارج.
مع ذلك، ووفق روايات أخرى لاحقة، أصرت الوزارة الإيرانية على أن العملاء الـ17 كانوا يتعاملون بصفة فردية، ولم تُسجل أي اتصالات بينهم، وبالتالي يصعب سحب وصف «الشبكة» – السالف الذكر – عليهم. والأهم مما تقدم، زعمت الوزارة الإيرانية أيضاً أن أغلب العملاء المكتشفين كانوا ضحايا «تصيد» وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مع وعود بتأشيرات أميركية وتصاريح بالعمل في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، لم يكن من الممكن أن يكون هؤلاء من العملاء المدربين تدريباً فائقاً على أعمال التجسس والتخابر بأي معايير معروفة. والأسوأ من ذلك، أن الوزارة – التي تغافلت عن مزاعمها الأولى بأن السيدة هاسبل كانت العقل المدبر وراء الشبكة الفارسية الخبيثة – عادت لتزعم أن عملاء الشبكة خضعوا للتجنيد قبل ست سنوات كاملة، أي قبل وقت طويل من وصول الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض ومن تولي السيدة هاسبل منصبها الجديد على رأس الوكالة.
بناءً عليه، يمكن اعتبار العملاء الـ17 المعنيين رهائن لدى طهران، بالإضافة إلى 41 رهينة آخرين محتجزين لدى الجمهورية الإسلامية بالفعل.
على صعيد متصل، فإن الصورة الأكثر صرامة وتجهماً التي تحاول طهران بثها ونشرها في الآونة الراهنة من الهجوم على الناقلات النفطية، وغيرها من الأهداف السهلة، وإيماءات تنظيم «حزب الله» اللبناني وحركة «حماس» الفلسطينية، واحتجاز المزيد من الرهائن، هي أحد جوانب الخطة التي تباشرها طهران في الوقت الحالي. ومن ناحية أخرى، تحاول زمرة الملالي الحاكمة البعث برسالة «يائسة» خفية تعكس استعدادهم التام للدخول في محادثات إيجابية وبناءة مع الأطراف الأخرى المعنية. ويتحمل محمد جواد ظريف، الذي لا يزال يلعب دور وزير الخارجية لدى المنتديات الغربية والبرامج التلفزيونية، مسؤولية تسويق هذه الرواية في الخارج. وفي أثناء وجوده في نيويورك التقى ظريف مع السيناتور الجمهوري راند بول، في محاولة لموازنة الاجتماع الذي عقده سابقاً مع السيناتورة الديمقراطية ديان فاينشتاين في زيارة سابقة. ووفقاً للمصادر المطلعة، عقد جواد ظريف اجتماعين طويلين آخَرين مع اثنين من رجال الأعمال الأميركيين المعنيين بالشؤون الإيرانية. ومن المعروف سلفاً أن جميع مَن اجتمعوا مع ظريف كانوا قد حصلوا مسبقاً على إيماءة بالموافقة، على الأقل، من جانب البيت الأبيض.
وكما أشرنا في مقال سابق، بدأت طهران بالفعل الامتثال للعديد من المطالب التي حددها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في مذكرته الشهيرة ذات الـ12 نقطة. وفي نيويورك، أضاف السيد ظريف التعهد بالنظر في مطلب مهم آخر، ألا وهو إعادة صياغة الاتفاق النووي الإيراني بهدف جعل القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني دائمة بدلاً من تقييدها لفترة زمنية محددة ومقدرة بـ10، أو 15، أو 20 عاماً. ويمكن تنفيذ ذلك، بصفة جزئية على الأقل، من خلال توقيع إيران على البروتوكولات الإضافية الخاصة بمعاهدة حظر الانتشار النووي، وهو الأمر الذي كانت إيران قد تعهدت به قبلاً إبان إدارة الرئيس السابق باراك أوباما غير أنها تغافلت عنه.
تستند لعبة طهران السياسية إلى استراتيجيةٍ كان الفرنسيون قد أطلقوا عليها مسمى «إغراق الأسماك». فمن خلال خلق أو تسليط المزيد من الأضواء على مختلف القضايا الساخنة الراهنة، تتفادى طهران منح الانطباع للخارج بإذعانها للاستسلام المشين. ويمكنها إطلاق سراح بعض الرهائن كإشارة على حسن النية. كما يمكن إعادة الناقلة البريطانية المحتجزة كجزء من تدابير بناء الثقة المتعارف عليها. وربما يستفيد جواسيس «الشبكة» الأميركية المزعومين من المعاملة المتساهلة عوضاً عن الإعدام من دون محاكمة كما هو معتاد في إيران الإسلامية.
ترزح الجمهورية الإسلامية، جراء العقوبات الاقتصادية الأميركية التي لا تكلّف البيت الأبيض شيئاً البتة، تحت ضغوط هائلة لم تَخْبُرها من قبل. وهذا هو السبب في أن خامنئي، على الرغم من صلفه وتفاخره الشديد، بات على استعداد للقيام بما يُقال له شريطة تأمين الحد الأدنى الممكن من حفظ ماء الوجه. وتكمن غايته الأولى في الآونة الراهنة في الصمود والنجاة من الحفرة الوعرة التي حفرها له دونالد ترمب. ويمكن بلوغ هذه الغاية إن سُمح له ببيع مليون برميل من النفط فقط يومياً بغية تمويل مشاريعه المفضلة وتغطية تكاليف وكلاء إيران في الداخل والخارج. فهل من شأن ترمب أن يخضع لاستمالات إعلان النصر السريع ويسمح للجمهورية الإسلامية بالإفلات من المصيدة في وقت تترنح فيه تحت ضربات العقوبات المتتالية؟
ربما ندرك الإجابة في وقت مبكر من الشهر المقبل مع انتهاء صلاحية الإعفاءات التي أصدرها الرئيس ترمب لسبع دول بشأن التعاون النووي مع الجمهورية الإسلامية. فإنْ قرر الرئيس الأميركي عدم تجديد الإعفاءات، فسوف يعكس هذا الموقف عدم استعداده لقبول مغريات الانتصار الجزئي. وفي الأثناء ذاتها، ورغم كل شيء، سوف يكون من المستحيل على إيران بلوغ حد الامتثال التام للاتفاق النووي المحتضر. وبعد أسبوع واحد من ذلك، سوف يحين ميعاد انعقاد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في فرنسا، حيث تعتزم الولايات المتحدة وأوثق حلفائها اتخاذ القرار ما إذا كان ينبغي السماح لإيران بالإفلات من المصيدة مرة أخرى، وكما هو الحال دائماً، سوف يكون ذلك في مقابل حزمة معتبرة من التنازلات الجزئية و«التجميلية» إلى حد كبير.