توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

خير القرون تاليها

من يطالع تاريخ البشرية، سيرى من دون عناء أن المجتمع البشري يتغير باستمرار. يطال التغيير أنماط العيش وعلاقة الناس ببعضهم، وعلاقتهم بالبيئة والطبيعة. ويتساوق التحول المادي في المحيط مع تحول موازٍ في الذهن، يطال القناعات والمعارف والتصورات والقيم، وهي النافذة التي ننظر من خلالها إلى العالم المحيط بنا. ولذا فإن ما نراه اليوم، يختلف عما كان يراه أسلافنا. ليس لأن الشيء ذاته تغير، بل لأن النافذة التي ننظر من خلالها قد اختلفت. ولا خلاف في أن هذا التغيير تصاعدي. البشرية اليوم أكثر عدداً وعلماً وقوة وغنى وسيطرة على الطبيعة، أي أكثر تقدماً وتحضراً.
وانعكس هذا التقدم على أعمار البشر وإنتاجهم. فطبقاً لما ورد في كتاب «حقائق العالم 2016 - 17» الذي نشرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، فإن المتوسط العالمي لعمر الإنسان في بداية القرن العشرين، تراوح بين 30 و45 سنة، بينما تجاوز 67 عاماً في 2009.
ما الذي يهمنا من هذا كله؟
أعتقد أن فهم قيم الدين واستيعاب المسافة بين العقلاني والميتافيزيقي، مشروط في جانب كبير منه، بموقفنا من مفهوم الزمن ومعنى التاريخ. ثمة فهم تراثي (أفضل وصفه بالتراثي بدل الديني) فحواه أن التاريخ يسير في اتجاه عكسي، أي أن العالم يزداد فساداً كلما توالت السنين. وبناء على هذا فإن القديم عموماً خير من الجديد، وأن القرون التالية أقل من سابقتها في الفضل والقيمة والاعتبار. وقد كنت على قناعة تامة بهذه الفكرة في بواكير شبابي. ولا أعرف مصدر تلك القناعة. لكن الجو العام في المدارس والمجتمع الديني، كان يميل إلى هذا الاعتقاد. وأذكر أني شاركت في منتصف ثمانينات القرن الماضي في مخيم لجمعية الطلبة المسلمين في أميركا الشمالية، يعقد سنوياً في عطلة رأس السنة، فوجدت أن مجلتهم تحمل اسم «الغرباء» ونشر تحت الاسم الحديث المنسوب للنبي «ولد الإسلام غريباً وسيعود غريباً... فطوبى للغرباء». ولاحظت أن هذه الفكرة تكررت بشكل يومي تقريباً، على لسان المتحدثين، الذين كانوا يذكرون أيضاً رواية أخرى، فحواها أن القرون المفضلة قد انصرمت، ولم يبقَ إلا ثمالة كثمالة الإناء وبقايا قليلة القيمة. ولعل القراء قد سمعوا مثل هذا، فالفكرة ذاتها تتكرر باستمرار على ألسنة الخطباء والوعاظ. ومفهوم أن الكلام عن غربة الدين غرضه ذم الحاضر وتسفيه قيمته. مع أن الدين ليس غريباً في الواقع ولا ضعيفاً.
نحن إذن إزاء تعارض بين أمرين:
أ) واقع نراه بأعيننا، وهو التقدم المنتظم للبشرية في حياتها وتفكيرها وعلاقتها مع الطبيعة.
ب) مفهوم تراثي (له ظلال دينية أو يقوم على مبررات دينية)، فحواه أن العالم لا يتقدم في الحقيقة، أو أنه يتقدم في كل المجالات، لكن قيمته تتحدر في ميزان الدين.
إن تساوق الفكرتين يعني إلغاء قيمة التقدم الإنساني وتجربة البشر عموماً. وهذا - من أحد الوجوه على الأقل - إنكار لأعظم أغراض الدين، أي تحرير الإنسان من أسر الطبيعة. إنكار الأول غير عقلاني، لأنك لا تستطيع إنكار واقع حي تراه بعينيك. ولا أرى إمكانية للمصالحة بين المفهومين.
إن السبيل الوحيدة لوضع التاريخ في مكانه الصحيح، هو التخلي قطعياً عن فكرة تراجع الزمن وأفضلية الماضي على الحاضر. لأن الحقيقة هي أن كل زمن يأتي بخير من سابقه، وأن مسار البشرية تصاعدي، حتى لو أخفق في بعض الأحيان.