جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا أمام مفترق خطير

الحرب التي نشبت يوم 4 أبريل (نيسان) الماضي، من قبل قوات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، بغرض القضاء على الجماعات المسلحة في طرابلس، ابتدأت بدخول قواته، من دون إطلاق نار، إلى مدينة غريان، في جبل نفوسة، على بعد 80 كيلومتراً جنوب غربي العاصمة.
في اليومين الماضيين، استردت قوات حكومة الوفاق المدينة بعد قتال دموي عنيف، وأجبرت قوات المشير حفتر على التقهقر والانسحاب، مخلفة وراءها القتلى والأسلحة والذخائر.
أعتقد أن خسارة قوات المشير لمدينة غريان، على الوجه الذي تمّ، وما تركته من قتلى وجرحى، وما صدر حولها من اتهامات ضد قوات حكومة الوفاق بارتكاب جرائم حرب سيقود النزاع الليبي - الليبي إلى مرحلة أخرى أكثر تعقيداً وعنفاً ودموية على المستوى العسكري.
وعلى المستوى السياسي، فإن نتائج هذه الحرب قد زادت من فرص تفتيت ما تبقى من النسيج الاجتماعي. وأعتقد أن مسألة إعادة توزيع مداخيل الثروة النفطية ستكون الباب الذي ستدخل منه ليبيا - غرباً وشرقاً وجنوباً - إلى هذه المرحلة، آخذين في الاعتبار سيطرة قوات الجيش الوطني على الحقول والموانئ النفطية في شرق البلاد.
ويمكن القول إن ليبيا بعد هذه الحرب تقف أمام مفترق طرق صعب، تقود مساراته إلى كثير من الاحتمالات، ليس من بينها خيار التفاوض والوفاق والسلام، الأمر الذي يشير إلى أن المسافة بين المركب الليبي ومرفأ الأمان والسلام ازدادت كثيراً، بعد ما يقرب من تسع سنوات مريرة من وجودها في عرض بحار خطيرة، وأن احتمال تحطم هذه المركب على صخور شواطئ صخرية مميتة أمر غير مستبعد، وليس غريباً كذلك، آخذين في الاعتبار ما حدث في كثير من تجارب الأمم والشعوب الأخرى التي قادتها الظروف إلى الدخول في أنفاق حروب أهلية مهلكة.
بند العودة إلى موائد التفاوض برعاية دولية بين أطراف النزاع ليس مستبعداً، لكن فرص حدوثه قريباً لا تبدو في الأفق، حسب ما تؤكده الوقائع على الأرض. وبالتالي، فإنني شخصياً أميل إلى توقع سعي كل الأطراف إلى حل خلافاتها بقوة السلاح.
من جهة أولى، فإن السيد المشير لن يقبل حالياً بالدخول في أي مفاوضات، بل سيسعى إلى تجميع قواته من جديد، والعودة إلى ميادين المعارك، على أمل تحقيق انتصار يمنحه فرصة العودة إلى المفاوضات من موقع أفضل وأقوى.
ومن جهة أخرى، فإن الحرب الأخيرة عملت على توحيد الجماعات والميليشيات المسلحة في مدينتي طرابلس ومصراتة لصد ما تواجهه من خطر كان سيمحقها. وبالتالي، لجأت إلى تأجيل ما بينها من خلافات وتنافس، ووقفت صفاً واحداً، واستطاعت في البداية صد الضربة الهجومية الأولى الشديدة، ثم انتقلت من مواقع الدفاع إلى الهجوم، ووصلت قواتها مدينة غريان. هذا النصر العسكري المكلف - بشرياً وعسكرياً ومالياً - جعل قادتها على مسافة أبعد من غرف وموائد التفاوض، على أمل استكمال الزحف العسكري إلى كل المناطق، في غرب البلاد، التي يحتمل منها عودة التصعيد العسكري، من قبل قوات الجيش، مستقبلاً.
إحدى نتائج الحرب الأخيرة أن حكومة المجلس الرئاسي، بقيادة السيد فائز السراج، تعرضت لأول مرة لتهديد عسكري حقيقي يهدف إلى القضاء على اتفاق الصخيرات السياسي ومخرجاته، ومن أهمها المجلس الرئاسي. النتيجة الأخرى هي أن صد قوات الجيش، ومنعه من تحقيق دخول طرابلس، والسيطرة على مقدرات الأمور في البلاد، أدى إلى تفاقم قوة الجماعات المسلحة سياسياً، وإضعاف المجلس الرئاسي، وربما فقدانه كلية ما كان له من حضور سياسي رمزي، على اعتبار أنه الكيان السياسي التنفيذي المعترف به دولياً، أي واجهة ضرورية لإضفاء شرعية على جماعات مسلحة تقف وراءه بادعاء حمايته، وهي لا تملك شرعية إلا قوة الأمر الواقع.
أجواء التعبئة العسكرية لن تكون رخيصة الثمن، وسيتولى المصرف المركزي دفعها على حساب أشياء أخرى أكثر إلحاحاً وأهمية واستجابة لحاجات المواطنين، ورفع المعاناة عنهم، ومحاولة إيجاد حلول لمشكلاتهم اليومية التي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، ابتداء من تجميع القمامة، مروراً بتوفير السيولة، وانقطاع الكهرباء، وتوفير الأمن والأمان.
ما تستطيع الوساطات الدولية أو الإقليمية فعله سيكون محدوداً، لكن بإمكانها لو توفرت النوايا إجبار الأطراف المتنازعة على وقف إطلاق نار، وحتى هذا صعب تنفيذه لأن الأحداث أثبتت أن لا أحد من الأطراف المتنازعة قادر على تقديم ضمانات بعدم انتهاكه وخرقه.
قد يكون لجهود المجتمع الدولي جدوى في حالة توفر نوايا لدى المتنازعين تعبر عن رغبة في وقف التحارب. وما لم يتحقق ذلك، فليس بمقدور الوسطاء الدوليين إجبار تلك الأطراف على الجلوس والتفاوض.
ليبيا، حالياً، تقف أمام مفترق طرق مختلف وخطير على المستويات كافة، ومن الممكن أن يقود إلى ظهور سيناريوهات سياسية لا تحمد عقباها، وتزيد من مستوى جريان أنهار الدم، وتخريب البنيان.
الأمنيات وحدها لا تكفي لوقف تدهور الأوضاع في ليبيا، ما لم يكن مصحوبة بأفعال في الواقع تحول بيننا وبين الانهيار، وعض الأصابع ندماً.