علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

افتراء شيوعي ناصع ومقدس!

أظن أنني قدمت صورة وافية عن مقال سيد قطب السفيه والمسف (بدء المعركة... الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ)، وأفضت في الحديث عن دافع من دوافع كتابته لهذا المقال.
شريف يونس يعتقد دافعاً آخر. لنستمع إلى رأيه وبعد ذلك سنرد على هذا الرأي.
يقول شريف يونس، وهو يتحدث عن خلاف التلميذ سيد قطب مع أستاذه العقاد: «وبينما كان التلميذ يندفع نحو التمرد، كان الأستاذ يندفع نحو المحافظة، ويشترك في مشروع أميركي لإصدار عدد من الكتب المناهضة للشيوعية، ويصطدم الطرفان، إذ يعتقد التلميذ أن أستاذه قد هاجمه، بسبب هجومه المستمر على الاستعمار الغربي والحضارة الغربية، دون ذكر اسمه، متهماً إياه بالترويج بهذه الطريقة للشيوعية. وفي رد غير مباشر، يكتب سيد قطب عام 1947، متهماً شيوخ الأدب بالدعاية لقضية المستعمرين، والتخلي عن الشعوب والعدالة الاجتماعية، وخدمة الأحزاب القائمة التي لا يمكن أن توصف بالوطنية، جرياً وراء المال».
الدافع الذي يعتقد به شريف يونس لكتابة سيد قطب لذلك المقال - كما ترون – دافع «تقدمي» و«وطني». والتقدمية والوطنية في معتقده ذواتا دلالة يسارية حصرية.
الشيوعيون واليساريون العرب، وبخاصة المصريون يعادون العقاد أشد العداء، وبسبب هذا العداء الشديد له يثيرون شبهات حول وطنيته وحول بواعث نقده للشيوعية شبهات أخلاقية ليس لها أساس من الصحة. وهذا العداء ليس مقتصراً على الجيل الشيوعي واليساري الذي عاصره، بل هو متوارث عند أجيال متأخرة منهم لم تعاصر العقاد وتعاصر تأليفه كتباً ومقالات ضد الشيوعية ولم تعاصر معاركه مع الشيوعيين واليساريين، ومن هؤلاء شريف يونس.
هذا العداء الشديد له والمتوارث سببه نقده للشيوعية وهجومه عليها في عدد من مؤلفاته وفي كثير من مقالاته.
صحيح أن ما قاله العقاد في الشيوعية وعن الشيوعية لا يمكن تصنيفه ضمن الكتابات الموضوعية في نقد الشيوعية، إذ يشوبه قدر كبير من التحامل والتجني، وصحيح أنه كان منغمساً في عدائها على نحو متطرف وهوسي إلى حد أن أي كاتب يختلف معه في رأي أو ينقد رأياً من آرائه، يتهمه مباشرة بالشيوعية حتى لو لم يكن شيوعياً أو يسارياً، لكن هذا الأمر لا يبرر الافتراء عليه.
العقاد عادى الشيوعية ونفر منها، لأسباب فلسفية وسياسية واقتصادية ومجتمعية منطلقها وأساسها معتقده الليبرالي. وعاداها ونفر منها لسبب ديني، فالعقاد ذو حمية وعصبية للأديان، وبخاصة الدين الإسلامي.
وقد عاداها ونفر منها جيله من الأدباء والمثقفين الليبراليين الذين لم يكرسوا مؤلفات أو مقالات كثيرة في نقد الشيوعية. وهذا ما تنطق به بعض كتاباتهم القليلة عنها. ومرد هذا العداء والنفور إلى أنهم كانوا مسكونين بالروح الليبرالية.
ما قاله شريف يونس عن العقاد هو محض افتراء، فهو يتحدث عن مقال العقاد (إرادة الغفلة) المنشور في مجلة (الرسالة) بتاريخ 18/ 3/ 1946، وفي ذلك التاريخ لم تبدأ بعد فكرة برامج فرانكلين للكتاب غير الربحية.
فالفكرة بدأت في مكتبة الكونغرس عام 1951، ونشاطها بدأ في عام 1952، وانتهى في عام 1978. افتتح أول مكتب لمؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر في العالم العربي في بغداد عام 1952، تلاه افتتاح مكتب في القاهرة عام 1953.
استند شريف يونس إلى كتاب صلاح عبد الفتاح الخالدي (سيد قطب، الشهيد الحي) في اعتقاد سيد قطب أن أستاذه العقاد قد هاجمه بمقاله (إرادة الغفلة). ففي الهامش قال شريف يونس: «حيث يشير إلى مقال (إرادة الغفلة) للعقاد، باعتباره - على لسان محمد قطب - موجهاً بطريق غير مباشر لسيد قطب».
لنرجع إلى ما قاله الخالدي في كتابه المذكور.
يقول الخالدي: «جفا العقاد سيد قطب بعد خروجه عليه أدبياً أولاً، ثم فكرياً بعد ذلك بل مقته لاتجاهه الإسلامي، ولم يكن العقاد يطيق الاتجاه الإسلامي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، بل كان يحاربه بشراسة، وراح العقاد ينتقد سيد ويتحدث عنه، ويأسف له، وكتب في الرسالة مقالة بعنوان (إرادة الغفلة) ضد سيد قطب دون أن يذكره بالاسم». ثم كتب الخالدي في الهامش: كما أخبرني الأستاذ محمد قطب.
قاتل الله الهوى!
إن شريف يونس يعلم أن سيد قطب في تلك السنة وفي سنوات تلتها، لم ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين فهو انضم إليها في عام 1953 بل إنه في تلك السنوات كان يمقتها ويمقت زعيمها حسن البنا، فكيف جوّز لنفسه قبول تلك المعلومة المكذوبة؟! هل لأنها تضمنت افتراء إسلامياً مغالياً على العقاد، وأن المهم عنده هو الافتراء عليه حتى لو لم يكن هذا الافتراء افتراءً شيوعياً ناصعاً ومقدساً؟!
إن العقاد ذو اتجاه إسلامي منذ أواخر ثلاثينات القرن الماضي، وظهر هذا الاتجاه في كتب تتابعت منذ عام 1942، وسيد قطب تتلمذ على هذه الكتب. وكان كلما طُبع كتاب منها في النصف الأول من أربعينات القرن الماضي يبادر سيد قطب في الإشادة به والثناء عليه. وحتى بعد تبلور الاتجاه الإسلامي الأصولي عنده، ما انفك عن الاسترفاد من إسلاميات العقاد.
ثم إن العقاد لم يتعرض لـ«الإخوان المسلمين» بالنقد والهجوم إلا في عام 1947. ومقاله ذاك كتبه في أول عام 1946!
وهذا المقال الذي كتبه العقاد في هذا التاريخ، انتظر سيد قطب - بحسب رأي شريف يونس - عاماً وثلاثة وعشرين يوماً ليرد عليه بمقاله (الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ)!
إن هذا المقال كما بسطنا في مقالات سابقة معظم ما جاء فيه، كان هجوماً على شيوخ الأدب من دون استثناء، ولم يكن مقصوراً ومقتصراً على الهجوم على العقاد.
إن شريف يونس في المعلومة المكذوبة التي استند إليها استحى أن يأتي بما تضمنته من افتراء إسلامي مغالٍ على العقاد، وأتى بمضمون آخر غير موجود في المصدر الذي استند إليه، وهو كلام الخالدي الذي أوحى به إليه محمد قطب. هذا المضمون الآخر هو أن العقاد استاء من هجوم سيد قطب المستمر على الاستعمار الغربي والحضارة الغربية، متهماً إياه بالترويج بهذه الطريقة للشيوعية. لم يذكر صاحب المعلومة الأصلي محمد قطب، ما المقال أو المقالات التي كتبها سيد قطب، ورد عليها العقاد في مقاله (إرادة الغفلة). فلو كانت معلومته صحيحة لذكر اسم المقال أو المقالات.
مقال العقاد في أغلبه رد على أنصار الفاشية الإيطالية في مصر، وهو لم يسمِ أحداً منهم. وقد اتهمهم بأنهم أنصار مأجورون، واستعرض حرج موقفهم في طرابلس والحبشة المحتلتين من قبل إيطاليا. وعلى الأغلب كان يقصد بهذا حزب مصر الفتاة وعلى رأسهم أحمد حسين.
ومر في أقل من سطر على الصراع بين النازية والديمقراطية ثم توقف أقل من الوقفة الأولى في المساحة عند الصراع بين الشيوعية والديمقراطية. ومثلما رأى في الوقفة الأولى أن شعار لتسقط الحبشة معناه لتحيا إيطاليا، رأى في الوقفة الثالثة أن شعار لتسقط الديمقراطية معناه لتحيا الشيوعية، وقد اتهم أصحاب هذا الشعار أيضاً بأنهم مأجورون.
وفي هذه الوقفة دافع عن عيوب الديمقراطية دفاعاً طويلاً، ومنه قوله: «ومن المحقق أن الديمقراطيين يكذبون ويخدعون، ولكن من المحقق كذلك أن الديمقراطية خير من الاستبداد بعد كل ما يقال عن مساوئ الديمقراطية».
العقيدة الفاشية والعقيدة النازية عقيدتان مبغوضتان وكريهتان عند الشيوعيين وعند اليساريين، وهذا ما يفسر لنا تقديم شريف يونس صورة مضللة عن مقال العقاد. فهو لم يشر إلى أن المقال في معظمه كان هجوماً على أنصار الفاشية في مصر. ففي إشارة كهذه تزكية تقدمية للعقاد هو يكرهها.
إن ما أغفله شريف يونس أن سيد قطب بعد كتابة العقاد مقاله (إرادة الغفلة) بثمانية أشهر وتسعة وعشرين يوماً نشر مقالاً في مجلة (الرسالة) عنوانه (غفلة النقد في مصر) لمز فيه العقاد من دون أن يسميه، كما بيّن لنا ذلك علي شلش في كتابه (التمرد على الأدب).
ومقاله هذا والمقال الذي ذكره شريف يونس لم يكتبهما سيد قطب رداً على مقال العقاد المذكور، ولا هو كتبهما بدوافع أخلاقية أو سياسية أو فكرية أو وطنية أو قومية، وإنما بدوافع شخصية غير نزيهة ضد شيوخ الأدب... وللحديث بقية.