جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

السلام الليبي ممكن لو...

القريبون المطلعون على الأوضاع في العاصمة الليبية طرابلس يعرفون، من دون شك، أن المسافة بينها وبين مرفأ السلام ما زالت بعيدة، بل وتزداد مشقة وتعقيداً.
فها نحن على وشك الاقتراب من الذكرى التاسعة لانتفاضة فبراير (شباط) 2011، ولم نرَ بعد في الأفق ما يشير إلى أن من بيدهم خيوط الربط والحل قد شبعوا عناداً، واحتراباً، وتعبوا من المشاركة في مسلسل الدم النازف، وأنهم أخيراً ربما يقتنعون بحقيقة أن لا أحد منهم بمقدوره حسم الصراع بقوة السلاح، وبالتالي لا بد من التوقف، والالتفات إلى الوراء قليلاً لمعرفة ما تركوه خلال مسيرتهم الدامية من خراب، وما أحدثوه من انقسام، وما ارتكبوه من جُرم في حق البلاد والعباد.
مرفأ الاستقرار والسلام، الذي تهفو إليه قلوب الليبيين، في الحقيقة، واضحة تفاصيله على الخريطة. وباستثناء طريق الحرب، فإن كل الطرق الأخرى غيرها تقود إليه؛ إن توفرت النيات. وليس من الصعوبة بمكان رسم خريطة طريق تقود نحوه، على أساس مبدأ «لا مغلوب ولا غالب»، و«الصلح سيد الأحكام». وخلف أبواب مغلقة، يمكن للأطراف المتنازعة الجلوس حول طاولة مستديرة، ليتداولوا خلافاتهم، للبحث عن حلول لها، وإيجاد وسيلة يخرجون بها من النفق الذي حشروا أنفسهم والبلاد داخله. لكن، وإلى يوم الناس هذا، ما زال كثيرون من قادة الأطراف المتنازعة يعتقدون بقدرتهم على حسمها بحرب وقود نارها حيوات وأرواح شباب، ودموع أمهات، ودمار وخراب عمران، وتلاشي الأمن والأمان، واحتراق ما تبقى من أوهام استقرار مأمول.
الأطراف جميعها لا تستطيع التنصل من مسؤوليتها عما حدث ويحدث. والراغبون في الجلوس إلى طاولات التفاوض، إن كانوا حقاً ينشدون السلم، ليس من حقهم تحبير الأوراق بشروط يعرفون مسبقاً أنها لن تقبل. وليس من حقهم كذلك اشتراط مع من يتفاوضون، أو يرفضون الجلوس والتفاوض. فالغرض من القبول بالجلوس للتفاوض والوصول إلى سلام ووقف الحرب والقتل والدمار يلزم الجميع بقبول الجلوس إلى طاولة تفاوض يتحلق حولها الجميع. لذلك، من المفيد التذكير بأن تصريحات رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج برفض التفاوض مجدداً مع المشير حفتر، تعدّ غير مسؤولة، لأنه لا صلح ولا سلام في ليبيا من دون أن يكون المشير حفتر أحد أطرافه. الأمر نفسه يطال المشير حفتر، وبقية القادة الآخرين. ومن المهم أن نعيد التوكيد على حقيقة أن عقد انتخابات جديدة نيابية ورئاسية يظل الخيار الأفضل والحل الممكن، والأقرب للتحقق، للخروج من نفق الأزمة.
إطالة أمد النزاع والاحتراب ليس في صالح أي طرف من الأطراف، كما أبانت وقائع وأحداث الحرب الدائرة في ضواحي العاصمة طرابلس، منذ بداية شهر أبريل (نيسان) الماضي، وما سببته على مستويات الخسائر البشرية، والعسكرية، والاستنزاف المالي الذي أحدثته. ووضع الرؤوس في الرمال، كالنعام، هرباً من هذه الحقائق الموجعة، لن يفيد أحداً، وليس له طائل لطرف دون آخر، لأن الأطراف كلها دخلت راضية بأرجلها في نفق تعرف مسبقاً أن احتمال خروجها منه لن يكون سهلاً أو رخيص التكلفة مالياً وعسكرياً وبشرياً وعمرانياً.
ويمكن القول إن المبادرة السياسية التي بادر بها السيد السراج مؤخراً، يستحق الشكر عليها، وتستحق من الأطراف كافة أن يولوها اهتمامهم ووقتهم، ومناقشة بنودها وتقديم ما يرونه مناسباً من تعديلات وغيرها يمكنها تمهيد الأرض وإعدادها أمامهم للالتقاء وحسم الخلافات على طاولة التفاوض، شرط توفر الرغبة في الوصول إلى حل يحافظ على مصالح الجميع، ويفتح الأبواب أمام البلاد للدخول في مرحلة تقوم على التخلص من كل الأجسام التي فقدت شرعيتها.
الوصول إلى السلام في ليبيا، كما أبانت التجربة، عبر طريق مفروشة بالجثث والدمار ليس ممكناً، لأنه لن يكون سلام وفاق، وتراضٍ، بل سيكون سلاماً مفروضاً بقوة السلاح. والخيار الأسلم هو البحث عن منافذ، بمساعدات دولية، تؤدي إلى وضع خريطة طريق تقود إلى خاتمة متوافق عليها، تضمن، بضمانات دولية، التعهد بعدم اللجوء إلى استخدام السلاح، وتؤكد توفير الأجواء الأمنية المناسبة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة.