هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

أميركا و«الحرب المزدوجة»

خلال العام ونصف العام الماضي، كانت وزارة الدفاع الأميركية تواصل إجراء التغييرات الجذرية في استراتيجية الدفاع الأميركية. وظلت وزارة الدفاع الأميركية تباشر إصلاح استراتيجية «الحرب المزدوجة» الدفاعية خلال الربع الأخير من القرن الماضي، لصالح الاستراتيجية الأخرى التي تركز على الفوز في معركة واحدة عالية المخاطر ضد الصين أو روسيا. وترتكز استراتيجية الحرب الواحدة على تقدير صحيح تماماً يفيد بأن هزيمة خصم القوى العظمى عسكرياً سوف يكون أصعب من أي شيء آخر اضطلع به الجيش الأميركي منذ عقود. ومع ذلك، فإن الأمر ينطوي كذلك على مخاطر عدم امتلاك الولايات المتحدة للقوة العسكرية الكافية التي تمكنها من التعامل مع العالم الذي قد تواجه فيه تهديدين رئيسيين أو أكثر في ذات الوقت.
خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، كان الجيش الأميركية يملك ما يُعرف بهيكل تخطيط القوة (وهي الخطة التي تلائم حجم وإمكانات القوة وفق السيناريوهات الرئيسية المرجح أن تواجهها هذه القوة)، والذي يركز على خوض حربين طارئتين إقليميتين رئيسيتين في وقت واحد أو أكثر. وكانت الفكرة تدور حول أنه ينبغي للولايات المتحدة امتلاك القدرة على هزيمة الخصم في الشرق الأوسط بصورة حاسمة - العراق أو إيران - من دون تعريض قدراتها على مواجهة كوريا الشمالية بشكل كبير. وكانت قدرة خوض الحربين من الضرورات للحيلولة دون وقوع الهجوم الانتهازي من قبل أحد خصوم الولايات المتحدة أثناء انشغالها بخوض حرب أخرى في نفس الوقت، ومن ثم التمسك بالاستراتيجية الكبرى التي تستند إلى ردع نشوب الحرب في مناطق متعددة في نفس الوقت. واستراتيجية الحرب المزدوجة، كما قال مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية في عام 1997: «هي الشرط اللازم للقوة العظمى».
وبعد الشروع في تدابير تقشف الميزانية في عام 2011 تلاشت استراتيجية الحرب المزدوجة على نحو تدريجي إذ جعلتها التخفيضات الدفاعية أصعب من حيث التعامل مع خصمين إقليميين في آن واحد. وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2014 كان من الواضح أن الولايات المتحدة تواجه عالماً مختلفاً للغاية، حيث لم يعد خصوم البلاد الرئيسيين هم من الدول المارقة الأدنى اقتصادياً وعسكرياً، وإنما هم من القوى الكبرى ذات القدرات العسكرية الضخمة والمؤكدة. ومما يضاف إلى ذلك، أن أي حرب تنشأ ضد روسيا أو الصين، من المرجح أن تنشب في الساحات الجيوسياسية الخلفية، وأن كلا الخصمين الكبيرين قد قطعا وقتاً طويلاً، وأنفقا الكثير من الأموال، وبذلا الجهود الفكرية الهائلة في محاولات تحييد المقدرة الأميركية على استعراض القوة. ومن شأن الجيش الأميركي أن يجد صعوبة كبيرة في الفوز بالحرب الواحدة ضد منافس كبير من القوى العظمى الأخرى.
في استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية لعام 2018، والبيانات اللاحقة عليها، صاغت وزارة الدفاع الأميركية هيكلاً مغايراً تماماً لتخطيط القوة لديها. وأعلنت الوزارة أن الجيش الأميركي المعبأ بالكامل سوف يكون قادراً على هزيمة العدوان من خصم القوى العظمى، مع ردع (وليس بالضرورة هزيمة) العدوان في المسرح الثاني. وبعبارة أخرى، تعمل الولايات المتحدة في الآونة الراهنة على بناء القوة التي لا تضطلع بمواجهة نزاعين إقليميين مع الدول المارقة، ولكنها القوة المعنية بمتطلبات الفوز في صراع مرتفع الكثافة ضد منافس واحد من الدرجة الأولى، مثل الحرب ضد الصين على تايوان، على سبيل المثال، أو المواجهة مع روسيا في منطقة البلطيق.
هناك قدر كبير من التفكير الجاد وراء هذا التحول. وتهدف الاستراتيجية الجديدة إلى الإشارة بصورة لا لبس فيها - إلى الحلفاء، والمنافسين، والهيئة البيروقراطية في وزارة الدفاع - بأن الولايات المتحدة تركز الآن بصفة مباشرة على منافسة القوى العظمى والتحديات الهائلة التي تشكلها للقوة التي انشغلت تماما لمكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد لما يربو على عقدين من الزمان. وتدرك أيضاً أن المزايا العسكرية الأميركية في مواجهة الصين وروسيا قد تراجعت بشكل خطير، وأن وزارة الدفاع سوف تحتاج إلى قدرات تقنية فائقة وجديدة ومفاهيم عملياتية مبتكرة لهزيمة أي من البلدين في حالة اندلاع الحرب الشاملة.
وتولي الاستراتيجية الجديدة الأولوية لتصحيح تلك المفاهيم والقدرات الأساسية - والتي لا تزال في طور النشوء - بشأن توسيع القوة من خلال الحصول على المزيد من حاملات الطائرات، والمقاتلات من حقبة الحرب الباردة، وغير ذلك من القدرات القديمة، والتي يمكن استهلاكها بكل بساطة في أي قتال ينشب ضد موسكو أو بكين. والمقصود منها إبعاد وزارة الدفاع عن الطريقة الأميركية القديمة لخوض الحروب - تلك الطريقة التي اعتمدت على حشد القوة الساحقة في المسرح ثم شن الحرب في الوقت الذي تختاره واشنطن - والانتقال إلى طريقة جديدة للحرب تحرم القوات الأميركية بموجها الخصوم الآخرين من القدرة على الاستيلاء على التضاريس البرية الرئيسية بسرعة، أثناء القتال في بيئة مهلكة بصورة لا مثيل لها.
وإجمالاً للقول، تستند مقاربة وزارة الدفاع على فكرة أنه ينبغي على الولايات المتحدة التخلص من هاجس كيفية التغلب على خصم واحد من القوى العظمى، قبل أن تنطلق إلى أي مقاربات أخرى أكثر طموحاً من ذلك. وهذه من المقاربات المعقولة، ولكنها تنطوي في نفس الوقت على مخاطر حقيقية بالنسبة للحرب والسلام على حد سواء.
والخطر الرئيسي في زمن الحرب هو أن العالم قد يمارس المزيد من الضغوط على الولايات المتحدة بأكثر مما يمكن لوزارة الدفاع الأميركية التعامل معه. فالولايات المتحدة لا تواجه منافساً واحداً وإنما تواجه اثنين من خصوم القوى العظمى، ناهيكم عن التهديدات من المستوى الأدنى التي تشكلها كوريا الشمالية، وإيران، والجماعات الإرهابية المختلفة. وليست هناك فرصة جادة لأن تجد الولايات المتحدة نفسها تتعامل مع التحديات العسكرية الخطيرة في مسرحين أو ثلاثة مسارح من القتال في آن واحد.
وفي واقع الأمر، إن كان يجب على الولايات المتحدة الخروج بمعظم جيشها إلى حرب لهزيمة الرهان الصيني على الهيمنة في غرب المحيط الهادي، فمن شأن القوة المعادية الأخرى - وربما تكون روسيا - أن تشرع في شن حرب مماثلة أثناء انشغال الولايات المتحدة بالقتال في مسرح آخر. وحتى برغم أن القوة الثانية لن تقوم بشن حرب رئيسية كبيرة ضد الولايات المتحدة أو أي من حلفائها، فربما تسعى إلى الحصول على بعض التنازلات الدبلوماسية عن طريق فرض القوة والتهديد - الصريح أو الضمني - بالعدوان في الوقت الذي لا تكون واشنطن متأهبة فيه تماماً للتعامل معها.
والتماساً للإنصاف، طرحت وزارة الدفاع وبعض من كبار المسؤولين السابقين فكرة مفادها أنه بموجب مبدأ الحرب الواحدة، لا يزال بإمكان الولايات المتحدة إعمال مبدأ الردع في المسرح الثاني، وأن النجاح الذي حققه الجيش الأميركي في التعامل مع الخصم الأول سوف يكون أداة حاسمة في تحديد ما إذا كان سوف يواجه الخصوم الآخرين من عدمه. ومع ذلك، وكما لاحظت لجنة استراتيجية الدفاع الوطني المكلفة من قبل الكونغرس، ليس من الواضح كيف تخطط وزارة الدفاع الأميركية على وجه التحديد لردع الخصم المعتدي الثاني إذا كانت الوزارة تفتقر إلى المقدرة على منعه من الاستيلاء على التضاريس البرية الرئيسية في المقام الأول.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»