نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

الجدوى الاقتصادية والمخاطر البيئية

حين التقيته للمرّة الأولى قبل عشرين سنة، لم ألحظ على المصرفي العريق اهتماماً كبيراً بالبيئة وتغيُّر المناخ؛ إذ بعد عقدين من المسؤوليات القيادية في مصارف عالمية، أصبح عمله مراقبة عمل المصارف والتأكّد من التزامها بالقوانين والضوابط المالية. بعدما فرّقتنا انشغالات العمل والسفر لسنوات، التقيت صديقي منذ أيام، وفوجئت أن اهتمامه الأساسي، بعد السؤال عن الأولاد والعائلة، كان البيئة وتغيُّر المناخ. ظننت للوهلة الأولى أنه غيّر مجال عمله، أو أنه يحدّثني في موضوع اهتمامي بداعي اللباقة، فما أعرفه أنه يدير شركة استشارية عالمية، اختصاصها وضع خطط للمصارف والمؤسسات المالية في مجال إدارة المخاطر، فمن أين اهتمامه المستجد بالبيئة وتغيُّر المناخ؟
شرح صديقي أنه حين كان يقرأ عن الكوارث البيئية وأخطار تغيُّر المناخ قبل عشرين سنة، لم يكن يربطها بعمله الذي كان محصوراً في الالتزام بشروط العمل المصرفي والقروض والتوظيفات المالية ومكافحة تبييض الأموال والنشاطات غير المشروعة الأخرى. مهمة الهيئة التي كان يرأسها كانت ضمان التقيّد بالقوانين المحلية والدوليّة، والحفاظ على حقوق المودعين والعملاء وسمعة القطاع المصرفي، أما عمله في إدارة المخاطر اليوم فلا يقتصر على الجرائم والمخالفات المالية، بل يشمل حماية القطاع المالي والمستثمرين وشركات التأمين من الأضرار التي يمكن أن تسببها الكوارث البيئية، وبخاصة تلك الناجمة عن تغيُّر المناخ.
المصارف وشركات التأمين كانت تأخذ في الاعتبار دائماً إمكان حصول أعاصير وفيضانات وموجات جفاف. لكن تعاظم حدّتها وتصاعد وتيرة تكرارها في السنوات الأخيرة، كما قال صديقي، دليل دامغ على ما حذّر منه العلماء من مظاهر تغيُّر المناخ. فهل تموّل المصارف جزيرة اصطناعية أو مشاريع على شواطئ منخفضة، قد تغمرها المياه بسبب ارتفاع البحار؟ أم تدعم مشاريع صناعية تصدر عنها كمية مرتفعة من الانبعاثات الكربونية في حدود قد تكون مسموحة اليوم، لكن سيصيبها الحظر مع ازدياد القيود التي يفرضها وضع حد لارتفاع درجات الحرارة؟ ما هي الحدود المسموحة للاستثمارات في موارد طبيعية غير متجددة، وإلى أي مدى يمكن أن تستمر وتدرّ أرباحاً، إذا لم تؤمّن التوازن بين المعطيات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية؟
فوجئت أن صديقي يتذكّر مقالاً كتبتُه عام 1996، عن أن استمرار النمو يتطلب العمل مع الطبيعة وليس ضدها. فالموارد الطبيعية هي وقود النمو، ولا بد من تحقيق التوازن بين المكونات المختلفة منعاً للتلويث والاستنزاف، فإذا خسرنا الموارد الطبيعية، خسرنا العناصر التي تقوم عليها التنمية. كما ذكّرني بتشبيه ورد في المقال عن رجل كان يملك دجاجة تبيض ذهباً، لكن الجشع دفعه إلى الاعتقاد أنه في الإمكان الحصول على الذهب كله دفعة واحدة بدلاً من انتظار الدجاجة لتعطي بيضة كل يوم. وحين بقر بطن الدجاجة للاستيلاء على ما ظنه كنزاً جاهزاً، وجد بيضة ذهب واحدة غير مكتملة، بعد أن ماتت الدجاجة وفقد مصدر رزقه.
صديقي المصرفي يدرك أن للتحديات والمخاطر البيئية والمناخية انعكاسات مهمة على الاستقرار المالي، فدخول مصادر بديلة للطاقة غير الوقود الأحفوري سيشكل نهاية لبعض أنواع الاستثمارات ويؤثر على تقييم الكثير من الأصول. لكن مخاطر الامتناع عن التحوّل الاقتصادي لمواكبة المتغيرات تبقى أكبر كثيراً على الاستقرار المالي. ومن البوادر الإيجابية أن برامج طموحة لتنويع الاقتصاد بدأت في الدول العربية المصدّرة للبترول، تواكبها استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، كما يحصل في السعودية والإمارات.
القطاع المالي ليس وحيداً في النظر جدياً إلى مخاطر الكوارث البيئية وتغيُّر المناخ، حماية لاستثماراته، فخلال مشاركتي مؤخراً في اجتماع لبحث دور تنويع الاقتصاد في تحقيق التنمية المستدامة، قدّم لي شاب بطاقته الشخصية، التي تفيد بأنه «اختصاصي في تغيّر المناخ وآلية التنمية النظيفة» في «سابك»، أكبر شركة للصناعات البتروكيماوية في المنطقة، وإحدى أكبرها في العالم. قال إنه انتظر طويلاً ليقابلني ويخبرني بقصته. فأثناء إعداده عام 2012 ورقة علمية لشركته عن المخاطر الممكنة من التحوّلات المناخية، وجد التقرير الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2009 عن أثر تغيّر المناخ على البلدان العربية، وشاركني في تحريره الدكتور مصطفى كمال طلبة، العالم المصري الكبير والمدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي رحل عنا قبل سنوات.
قال خبير المناخ في «سابك» إن أبرز ما لفت نظره في التقرير صور فضائية أعددناها بالاشتراك مع برنامج الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، لإظهار الآثار المحتملة لارتفاع البحار على الشواطئ العربية. تبيّن له من الخرائط أن الجبيل وينبع، حيث بعض أضخم الاستثمارات الصناعية لشركة «سابك»، هما بين المناطق المهددة. وبما أن التقرير كان الوثيقة الوحيدة عن الموضوع في ذلك الوقت، فقد استند إليه ليقترح على الشركة إجراء دراسة مفصّلة توصّلت، وفق ما قال، إلى «نتائج مفيدة ومهمة تم بحثها على مستوى مجلس الإدارة». هذا يثبت أن الشركات الصناعية الكبرى في العالم، وقد تكون شركات الصناعات البترولية في طليعتها، تثق بالعلم وتأخذ مخاطر التغيُّر المناخي على نحو جدّي، ليس حفاظاً على سلامة البيئة في كوكب الأرض فقط، بل لحماية استثماراتها أيضاً.
واللافت أنه حين زار الرئيس الأميركي دونالد ترمب لندن منذ أيام، عبّرت له الحكومة البريطانية علناً عن مخالفتها لسياساته المناخية. وجاء هذا الموقف الرسمي استجابة لرسالة وجهها إلى رئيسة الوزراء تيريزا ماي، 250 من أبرز العلماء في الجامعات البريطانية، يطالبون فيها بالضغط على ترمب لاحترام الإجماع العلمي حول تغيّر المناخ، ليس في بريطانيا وبقية العالم فحسب، بل أيضاً في الولايات المتحدة نفسها. فالرئيس ترمب يخالف في مواقفه المنكرة لتغيُّر المناخ تقارير صادرة عن الإدارات الرسمية الأميركية نفسها، كما عن المجتمع العلمي.
سألت صديقي المستشار المالي كيف يعطي موضوع تغيُّر المناخ كل هذا الاهتمام، وهو يدير شركة مركزها الرئيسي في الولايات المتحدة الأميركية، التي ينكر رئيسها حصول تغيُّر المناخ من الأساس. أجابني بأن هدف العاملين في المال والاقتصاد تحقيق الأرباح وضمان الاستثمارات على المدى البعيد، مضيفاً أن الحقائق العلمية ثابتة، أما ترمب فحالة عابرة. وإذا كانت هناك نسبة معينة من الشك، فمن أهم مبادئ ضمان الاستثمارات الحيطة والحذر. وأنهى، قائلاً: إذا صدّقنا ترمب ووقعت الواقعة، فهو لن يكون هناك لنحاسبه، وهو لن يعوّض على زبائننا، في أي حال، خسارة أموالهم.

- الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»