نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أزمة الرواية الفلسطينية

مجمع القمم الذي استضافته مكة المكرمة وخلاصاته المعلنة أعطى الفلسطينيين نسخة جديدة عن الدعم التقليدي الذي وفّرته لهم القمم منذ نشأتها.
وظل بوسع الفلسطينيين مواصلة القول بأنهم يتمتعون بدعم عربي شامل، ودعم إسلامي أشمل.
ونظراً إلى التصويت التقليدي في الجمعية العامة فلديهم كذلك دعم دولي أوسع.
كان هذا أحد أساسات الرواية الفلسطينية وقد بُني عليه الكثير حين انتقلت الحالة الفلسطينية من إنكار الوجود والحقوق إلى الاعتراف والتبني، فمن لم يعترف وفق الأصول الدبلوماسية الكاملة فقد اعترف واقعياً وعملياً، فوجد مبدأ حل الدولتين حاضنة مواتية لاحتمال ولادة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة العبرية، فتطورت الرواية الفلسطينية من حالة الإقرار الدولي بالمبدأ إلى حالة متقدمة نحو التطبيق الفعلي، وكان منطقياً بالنسبة إلى الفلسطينيين وفق الحسابات الرقمية التفاؤل بقيام الدولة، فلم يبقَ في العالم من يعارض حتى بنيامين نتنياهو الذي أعلن موافقة على حل الدولتين، وكذلك أميركا التي تبنت الحل وعملت على تطبيقه في زمن ما قبل ترمب.
غير أن عواصف إقليمية ودولية هبّت على الرواية الفلسطينية، ومثلما تفعل عوامل التعرية الجغرافية بنقل جبال بكاملها من مكان إلى آخر وبلمح البصر، انتقل واقع القضية الفلسطينية بمسلماتها الإقليمية والدولية إلى واقع آخر، فتحولت الرواية الفلسطينية التقليدية إلى مجرد مطالبات يؤيدها العالم في مواقفه العلنية إلا أنه ابتعد كثيراً عنها في أمر الاهتمام والسلوك والأولويات، وحين شمرت بعض الدول الوازنة عن ساعديها (فرنسا) لبعث الاهتمام بالمسلمات البدهية لحل القضية الفلسطينية، رأينا ما رأيناه من فتور وقلة اهتمام، فتحول المؤتمر الذي استضافته باريس من آلية مفترضة للتقدم نحو الحل إلى مجرد مظاهرة تضامن مع فكرة السلام وأهمية العمل على تحقيقها، فما المؤثرات المباشرة التي أثّرت سلباً على الرواية الفلسطينية؟
أولها، مؤثر فلسطيني عنوانه العام الانقسام الذي كلما مر يوم عليه دون إنهائه يتحول إلى انفصام، وحتى الآن لم يتمكن الفلسطينيون من معالجة هذه المعضلة فظل الجرح يتفاعل حتى نشر سموماً في جميع أرجاء الجسد الفلسطيني وامتداداته الخارجية.
لم يتوقف الأمر هنا عند الإشكالات السياسية بل ضرب البنى الأساسية التي حملت الحقوق الفلسطينية عقوداً من الزمن.
وثانيها، التطورات العربية والإقليمية المتسارعة. لقد أفرز الوضع العربي والإقليمي اهتمامات وتحالفات ليست القضية الفلسطينية من أولوياتها الملحة، وهذا وَضَعَ الحالة الفلسطينية تحت طائلة تناقضٍ ظاهر بين مصالح الأطراف المؤثرة تقليدياً وبين التزاماتها من خلال القمم وغيرها في مفصل أساسي عنوانه «صفقة القرن».
صار التقيد العربي بالرواية الفلسطينية كما كان في السابق يقود إلى اختلاف جوهري ومواجهة مع الولايات المتحدة في وقت لا يرغب فيه أي طرف في هذه المواجهة.
لقد تضاعف مأزق الرواية الفلسطينية بثالثة الأثافي كما يقال، فاستبد اليمين الإسرائيلي المغلق تماماً على التسوية مع الفلسطينيين بالقرار، وجاءت إدارة أميركية تعلن جهاراً نهاراً أنها تعمل على تصفية القضية الفلسطينية وفق منطق شاذ قوامه تحويل الاحتلال بالقوة إلى احتلال بالتراضي.
الفلسطينيون جميعاً لا يقبلون بهذا المنطق لما ينطوي عليه من تزوير لحقوقهم وأهدافهم، لهذا يتفهم العالم تحفظهم بل ورفضهم للدور الأميركي كوسيط، فالعالم كله يقر بأن ما تسرب عن صفقة القرن أو ما سبقها من إجراءات لا يسمح منطقياً بقبول أميركا كوسيط.
إذن السؤال الأهم: ماذا يتعين على الفلسطينيين أن يفعلوا؟
الإجابة عن هذا السؤال بصورة يقينية تحتاج إلى عمل كثير يبدأ به الفلسطينيون بأنفسهم ومع أنفسهم، أي إن مواجهة الذات أولاً أصبحت شرطاً لاستعادة المصداقية، فليبدأ الأمر باعتراف من الجميع بأن البيت الفلسطيني في أسوأ حالاته وأن الأرض التي ينبغي أن تحمل المواقف الصعبة، وأمامنا إسرائيل وأميركا والمتغيرات العربية والإقليمية، هي أرض رخوة تحتاج إلى الكثير لأن تحمل الأعباء الثقيلة. دون معالجة لهذه المعضلة الذاتية يبدو من الصعب استعادة النفوذ الإقليمي والدولي بالصورة التي كان عليها قبل عقود. أما على الصعيد الإقليمي والعربي، فعلى الفلسطينيين أن يضعوا الالتزامات القديمة في ميزان جديد، وألا يثقلوا المعادلة العربية الجديدة بأعباء لا يستطيعها العرب، وأتفق هنا تماماً مع النصيحة التي قدمها اللواء محمد إبراهيم للفلسطينيين بألا يطلبوا من العرب القيام بكذا والامتناع عن كذا، بل يطلبون منهم التركيز على مبدأ عادل وقوي وفعال، وهو أن كل ما تفعله أميركا لن يكون أساساً لسلام واستقرار في المنطقة بل سيكون حتماً خلْق واقع جديد فيه من مكامن التوتر والانفجار الكثير والكثير.
إن الخروج من المأزق الراهن يتطلب أولاً الاعتراف بوجود هذا المأزق، وثانياً حل الإشكالات الفلسطينية الذاتية، وبعد ذلك يُطلب من العرب ومن غيرهم الوفاء بالتزاماتهم وفق قدراتهم لا إعلاناتهم.