إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

إرهاب... وعنصرية... و«يوجينيون»!

أذكر للزعيم البريطاني اليساري العمالي والوزير السابق توني بن مقولة طريفة هي «مَن يحمّل الفكر الاشتراكي مسؤولية جرائم ستالين، كمَن يحمّل المسيح تبعات مجازر محاكم التفتيش»!
وبالفعل، لا يجوز الربط المباشر بين فكرة - أو نظرية أو منظومة قيَم - يتقبّل حاملها معارضتها... ولا يمانع في التعايش مع مَن يخالفه، وبين ممارسة فرد أو جماعة من هوية دينية أو سياسية أو عرقية ما الفرض والقهر والإلغاء لكل مخالفٍ أو مناوئ.
خلال الأيام القليلة الفائتة، شهدنا مجزرة فظيعة في سريلانكا. ولم يمر وقت طويل حتى تبيّن أن وراءها الجماعات نفسها التي تسعى جهدها لزج الإسلام والمسلمين في حرب «الخيار صفر» مع العالم كله. وكأنما «الحرب» على المدنيين المسيحيين في الغرب في حساب هذه الجماعات ليست كافية، جاء الدور الآن لفتح معارك ضد البوذيين والهندوس في جنوب آسيا.
طبعاً، هذا الإجرام العبثي المشبوه، لن يخفّف عبر استهدافه المدنيين البوذيين من معاناة أبرياء الروهينغا، ولن يفتّ بقتله الأبرياء الهندوس في عضد متشدديهم... مثل رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي الذي يخوض حالياً انتخابات «ماراثونية» مهمة، بل العكس تماماً هو الصحيح.
وكنا وما زلنا نشهد كيف أسهمت الجرائم العبثية - المرتكبة زوراً باسم الدين - في رفع شعبية غلاة العنصريين المسيحيين في أوروبا وأميركا، ووصلت تداعياتها مؤخراً إلى أستراليا ونيوزيلندا...
خلال فترة قصيرة سيتوجّه الناخبون الأوروبيون إلى مراكز الاقتراع للتصويت في الانتخابات البرلمانية. وكل المؤشرات ترجّح تقدماً كبيراً لليمين العنصري والشعبوي المتطرف في معظم دول القارة. وهذه الظاهرة لا تقتصر على أوروبا، التي هي اليوم الوجهة الأولى لمد اللجوء والهجرة من آسيا وأفريقيا، بل تشمل الأميركتين حيث يسجل اليمين المناوئ للمهاجرين والمسلمين صعوداً...
بل قبل أن ننسى، ولا يجوز أن ننسى، أن الضرر الأكبر، والأسبق زمنياً، وقع في الدول العربية والإسلامية. ففي بلداننا أهدر التطرف المدّعي «الإسلام الحقيقي» (بشقيه السنّي والشيعي) دم المسلمين، ذبحاً وحرقاً وتفجيراً.
لقد أسهم إسهاماً مباشراً في هدم مؤسسات الدول، وتدمير اقتصاداتها، وإذلال سيادتها، وتشريد أهلها، وتهجير عقولها.
نحن واقعياً إزاء حرب انتحارية شاملة. حرب يُزجّ فيها الإسلام بوصفه دينا وحضارة وهوية وشعوبا في مواجهة غير متكافئة محسومة النتيجة سلفاً... ضد العالم بأسره، ضد الحضارة البشرية كلها.
ولكن مهلاً...
هنا، على أولئك الذين ما زالت لديهم القدرة على محاولة تحليل حالة العالم، رصد الظواهر الاجتماعية والسياسية التي تتحكم به، وتتفاعل معه.
في العام الماضي نشرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تقريراً لافتاً بعنوان «الدعم الذي كان يلقاه اليوجينيون لم يتبخر، لكنه عاد اليوم إلى قلب الساحة». ولقد أشارت كاتبة التقرير لويز رو إلى اجتماعات عُقدت في إحدى الكليات الجامعية المرموقة بلندن لجماعات تدّعي الحرص على «تحسين الجنس البشري». ومن ثم، عرضت بدقة التيارات الفلسفية والسياسية والثقافية التي بلورت أفكاراً ومعتقدات في هذا الاتجاه.
الكاتبة قالت في تقريرها إن مفهوم «الانتقائية النسلية» Selective Breeding ليس جديداً بل يعود إلى فكر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي رأى فضائل «النسل الصحيح» في أهل السلطة، وما يستتبع ذلك من انتقاء واستثناء. بعدها، في أواخر القرن الـ18 جاءت نظريات توماس مالتوس حول السكان والموارد لتنبّه كثيرين، وكان بين أبرز مَن تأثر بها المفكّر والعالم الرائد تشارلز داروين صاحب نظرية «النشوء والارتقاء» وأساسها «البقاء للأصلح».
وبدورها، أثرت نظريات داروين وأعماله في أعمال قريبه العالم الموسوعي فرنسيس غالتون، الذي يعد رائد «اليوجينيين» Eugenicists والمفكر الذي أطلق تسمية Eugenics عام 1883؛ وجاءت من كلمة «يوجينيس» اليونانية التي تعني «الأصل الطيب».
مع غالتون - الذي زار الشرق الأوسط وجال في بعض أرجائه - أصبح العمل نحو «تنقية» الجنس البشري، والتمييز بين «الشعوب الجيدة» و«الهَمَج- أو المتوحشين»، مدرسة شبه متكاملة في نظرية التفوق العنصري والخصائص الوراثية.
ومن ثم، فإن الحسم بوجود «مزايا» و«عيوب» وراثية عند جماعات بشرية بعينها يستحيل أن يغيّرها التعليم والتثقيف، مهّد الطريق لكل النظريات العنصرية التي عرفها العالم فيما بعد، والتي خرجت من قاعات الجامعات والأوراق البحثية إلى الممارسات السياسية والحربية.
إن مَن يقرأ في تاريخ «اليوجينيين» لا يمكن أن يستغرب كيف وُلدت نظريات «العرق الصافي» أو «الشعب المتفوق»، وعبثية جَسر الهوة بين الأمم «المتقدمة» و«المتخلفة».
نعم، أدولف هتلر لم «يخترع» شيئا ولم يأت بشيء من عندياته، وما كانت «وصفات» شريكه جوزيف منغيلي ابتكاراً غير مسبوق. فقبلهما، كانت كل الممارسات العنصرية الإلغائية التي عرفتها البشرية في القرون الأخيرة تقريباً «القاعدة لا الاستثناء».
بل لعل السذاجة ومآسي الحروب التي روّجت لشعارات مثالية مثل «الحرية والمساواة والأخوة» أو «الحياة والحرية والسعي إلى السعادة» أو «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» - الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة (1948) - أوهمتنا بأننا نستطيع أن نخلق عالماً متحضِّراً متصالحاً مع نفسه.
ولكن، إذا تركنا غالتون جانبا وعدنا إلى مالتوس، تصدمنا حقيقتان؛ اقتصادية وتكنولوجية. وهاتان الحقيقتان لا تشجعان على توقع نهاية قريبة للعنصرية والأنانية والصراع من أجل البقاء. ذلك أن دعائم الرأسمالية التي تبشر بـ«اقتصاد السوق» و«عولمة رأس المال» و«حرية تبادل السلع والخدمات» بلا قيود أو ضوابط... تهتز بشدة وتتهاوى. والتطوّر التكنولوجي المذهل يلغي بسرعة مخيفة مُسلّمات ووظائف وممارسات، ويُحدث «ثورة» في نمط معيشة البشر وتواصلهم ومصالحهم... ويعيد تعريف حاجاتهم وعلاجاتها.
نحن نعيش في عالم يتغير بسرعة تكاد تكون فوق توقعاتنا، ناهيك من طاقة إدراكنا.
إننا نعيش في زمن إعادة تعريف الهويات، ومعها تعريف المصالح... والصديق والعدو.
وصحيح ما ذهب إليه تحقيق «الإندبندنت»، عن أن التمييز على أساس العرق واللون، الذي تخفّى مؤقتاً تحت ستار حضاري مهلهل، عاد إلى قلب الساحة السياسية بلا مواربة أو خجل أو ندم.
نحن اليوم في عصر صدام حضارات، وثمة مَن يتعجّل حدوثه... بل وتبريره.