حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

السودان بين ثورتي أبريل 1985 و2019

«لن نغادر الميدان، ولن نكرر تجربة ثورة أبريل (نيسان) 1985 فبعد أن أسقطنا النميري عدنا لبيوتنا فأجهض المجلس العسكري الثورة». الرجل الستيني علي إبراهيم المشارك في الاعتصام الشعبي وسط الخرطوم وضع الإصبع على الجرح ولخص كل الحكاية.
غنية التجربة السودانية ومريرة في آنٍ معاً. في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1964 تم إسقاط الحكم العسكري بعد هبة شعبية استمرت ثلاثة أسابيع، وكان التقدير أن الصفحة طويت بمجرد إبعاد الجنرال عبود والعسكريين الذين تحكموا في السودان منذ عام 1958، وأسسوا لتفاقم الصراع الإثني والجهوي والطائفي، ولم تتم وقفة جدية عند شبكة مصالح جرى نسجها مهدت لعودة الحكم العسكري بزعامة جعفر النميري يوم 25 مايو (أيار) 1969.
تسبب حكم النميري بتفاقم الانقسامات والتناحر الاجتماعي والتراجع الاقتصادي ومصادرة الحريات والتضييق على الحركة والتجربة السياسية المختلفة، فكانت ثورة أبريل عام 1985. صحيح أن الانتصار تحقق صبيحة 6 أبريل لكن الانتفاضة الثورية مرت بمحطات أبرزها يوم 26 مارس (آذار) عندما تدفقت مظاهرات الطلاب في الخرطوم وكل المدن وانضم للمتظاهرين الأطباء والتجار والحرفيون وأمسكت النقابات العمالية حركة الشارع، وكانت الموجة اللاحقة في 2 أبريل وصدرها إلى الطلاب، عمال السكك الحديدية ونقابات المهن الصحية ورجال القضاء... وراحت الأسر تنضم للتحرك الذي بلغ ذروته في 3 أبريل وبدا أن أجهزة الأمن التي جهزها النميري للدفاع عن حكمه عاجزة أمام الشارع الملتهب.
مساء الخامس من أبريل اجتمعت القيادات العسكرية برئاسة قائد الجيش سوار الذهب وبعد 7 ساعات أعلن الجيش انحيازه للشارع وصبيحة 6 أبريل أعلن سوار الذهب نهاية عهد النميري وكل منظومة مايو، لتبدأ فترة انتقالية من سنة واحدة تم بنهايتها تنظيم الانتخابات وتسليم السلطة للمدنيين. كل الترتيبات جرت بعيداً عن رقابة الجماهير السودانية التي وثقت بسوار الذهب وقد نفذ وعده بالتخلي عن الحكم، لكن شبكة المصالح خلف الحكم لم تُمس، فتحولت السنوات الثلاث إلى مرحلة تغلغل الجبهة الإسلامية القومية، بزعامة المرشد حسن الترابي في كل مفاصل الدولة، ولا سيما الجيش والأمن، مستفيدة من دورها بوصفها شريكا في الحكم المدني لتنفذ انقلاباً إخوانياً أوصل الضابط عمر البشير ليلة 30 يونيو (حزيران) إلى القصر.
حكاية 30 سنة من الحكم العسكري - الإسلامي تفوق الوصف. إنها سنوات انكشاف «الإسلام السياسي» وعجزه عن إنجاز أي أمر إيجابي. إنها مرحلة تعمق الانقسامات الطبقية والجهوية والإثنية، فكان انفصال الجنوب، والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في دارفور، وجنوب كردفان... إلى مصادرة الحريات والسعي لتدمير العمل السياسي والنقابي، وجعل الخرطوم مقراً للإرهابيين الخطرين من كارلوس إلى بن لادن. وتحول البلد الذي يوصف بأنه سلة غذاء العالم إلى بلد الفقر المقيم والمجاعة والمرض فندُر القمح وعزّ الرغيف!! وفوق ذلك سعى الحكم للتمديد للبشير فالتهب الشارع في الخريف الماضي ليبلور في وقت قياسي قيادة سياسية عاقلة ومجربة، قادت ثورة مدهشة عرّفت أبناء السودان بعضهم ببعض وعرفتهم على السودان، التقوا في ميادين الحرية ليكتشفوا في الشارع، الذي تحول ورشات عمل، أن دروبهم تتقاطع وقوتهم في وحدتهم، فخلقوا في الشارع فناً رفيعاً حرّك المهج ورسموا أكثر من سيناريو للسودان الجديد، وألغوا في أيام جرائم الحكم البائد لتكريس التناحر والعصبيات وإبقاء البلد مقطع الأوصال، لتعلن الفتاة العشرينية هناء توتو ملكة جمال النوبة: «لقد اخترنا الشارع، والشوارع لدى السودانيين لا تخون، وأنا فخورة بوجودي مع أبناء جيلي الذين يصنعون التغيير».
أظهر «تحالف قوى الحرية والتغيير» الذي يقود ربيعاً حقيقياً معرفة بدقائق ميزان القوى، وتؤكد خطواته الإدراك العميق أن السودان يعيش أياماً تاريخية؛ لذا بادر إلى الخطوات المتدرجة منطلقاً من حقيقتين:
الأولى، أن التحالف بات الممثل الأبرز لجماهير السودان التي ترفض إعادة إنتاج النظام السابق. وهو تحالف جبهوي التقى حول عناوين أهمها تصفية النظام ومقاضاة المرتكبين والفاسدين، وقيام مجلس سيادي مدني يتمثل فيه الجيش، وحكومة مدنية بصلاحيات كاملة، وتشكيل مجلس تشريعي ممثل للإثنيات والمناطق والكفاءات، وهيكلة جهاز الأمن القومي. وضمّ هذا التحالف إلى تجمع المهنيين الذي تنضوي فيه الكفاءات المستقلة «الإجماع الوطني» الذي تأسس عام 2009 وتنضوي في إطاره التنظيمات اليسارية والنقابية، و«تحالف نداء السودان» الذي تأسس عام 2014، ويضم إلى حزب الأمة 3 مجموعات عسكرية تنشط في دارفور وجنوب كردفان، ثم مجموعات من التجمع الاتحادي.
والثانية، أن الجبهة الإسلامية الحاكمة انكشف استبدادها وفسادها وممارساتها القمعية التي لم تورث إلاّ البؤس، وبدت المعطيات مواتية لإخراج السودان من الشرنقة المحكمة التي حاكها الترابي والبشير وفريقهما، والأجيال التي لم تعرف إلاّ حكم «الإسلام السياسي» الذي فاقم المآسي، بدأت ترسل إشارات التململ. تزامن ذلك مع تراجع الثقة بالجيش الذي هُمِّشَ لصالح الميليشيات الرديفة، وكان جلياً انحياز قطاعات منه لجماهير شعبهم والاعتقالات في صفوفه، فكانت دعوة قوى التغيير في 6 أبريل لمظاهرة احتجاجية أمام مقر الأركان تحولت لاعتصام مليوني دائم، وأدت لوضع الجيش بوجه الميليشيات التي فشلت في فك الاعتصام بالقوة، ما خلط الأوراق فتمت إطاحة البشير في 11 أبريل تحت ضغط المعتصمين والجيش. تلا ذلك إسقاط انقلاب القصر الذي ظن أنصاره أن التخلي عن رأس النظام يخدم الالتفاف على مطالب الشارع. ما أثار ريبة التحالف نجم عن بطء المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق البرهان في تلبية المطالب الشعبية، كاجتثاث النظام السابق ومواقع الثورة المضادة، وبروز الخلاف في الرأي والرؤية بشأن قيام حكم مدني ينجز التحولات المرتجاة، إلى محاولات قادة عسكريين إيجاد توازن بين قوى التغيير وقوى النظام السابق... كل ذلك دفع التحالف لوقف التفاوض والتحذير من جنوح لاحتكار السلطة وعودة النظام القديم.
أيام سودانية تاريخية حققت كثيرا على طريق استرجاع الحلم بسودان آخر، نجاحات هي نتيجة نهوض مدني حقق ثورة عميقة دعمتها القوات المسلحة يوم حمت الثوار في الميادين وهذا إنجاز يجب الحفاظ عليه، وتحفيز الناس على استمرار الاعتصام والمظاهرات المليونية رسالة لعدم المراهنة على الملل أو الإحباط، وتأكيد أن التنازلات المحدودة كاعتقال بعض الرؤوس لتجميل القديم لن يُكتب لها النجاح، وتحمل مخاطر كبرى.