فرديناندو جوليانو
TT

إسبانيا وتلمس الخطى الإيطالية

حققت الأحزاب المناهضة للمؤسساتية نجاحات معتبرة في جنوب أوروبا، خلال السنوات الأخيرة، حيث حازت جُل الزخم السياسي الممكن في إيطاليا واليونان عقب التعهد بالتخلص من الفكر السياسي السائد وتحدي التوافق الاقتصادي في بروكسل.
ومع بدء عملية الاقتراع في إسبانيا خلال الشهر الراهن، يساور الكثيرين القلق بشأن صعود حركة «فوكس» المناهضة للهجرات والمعادية لحقوق المرأة، التي برزت كقوة انتخابية حقيقية ومؤثرة.
بالنسبة لأولئك المنزعجين من تحول أوروبا صوب الشعبوية، فإن مدريد على وجه التحديد أبعد ما تكون من التماس المسار الذي قطعته روما قبلها، ناهيكم عن ذكر بودابست أو وارسو على أي حال. فالأحزاب الرئيسية في إسبانيا لا تزال قوية، وفي الصدارة، ما يعني أن الحكومة المقبلة في البلاد لن تكون مختلفة الشيء الكثير عن سابقتها. وحتى رغم أنها الانتخابات الوطنية الثالثة في غضون أربع سنوات، إلا أن الاقتصاد الإسباني قد تحمل اهتزازات عدم الاستقرار السياسي في ثبات يُحسد عليه.
ولا نعني من وراء ما تقدم القضاء تماماً على مخاوف تكرار تجربة «فوكس» في إسبانيا، التي أوقد وصولها إلى صدارة المسرح السياسي الإسباني نيران الحماسة في صدر ستيف بانون - المستشار الأسبق في إدارة الرئيس دونالد ترمب وكبير محرضي الغوغاء من الشعبويين الأوروبيين - فلقد أصبحت أول حزب سياسي من تيار اليمين المتطرف يفوز بمقاعد في الانتخابات الإقليمية الإسبانية (الأندلس) منذ رحيل الديكتاتور العسكري السابق فرانسيسكو فرانكو. وكانت أصوات الناخبين مهمة في تعزيز وضعية تحالف «حزب الشعب» من تيار يمين الوسط و«حزب سيودادانوس» الوسطي على رأس السلطة في البلاد، لينتهي بذلك حكم الاشتراكيين الذي استمر 3 عقود و6 سنوات في إقليم الأندلس. وحركة «فوكس» في طريقها للفوز بنحو 10 في المائة من إجمالي الأصوات في الانتخابات العامة. وهي نسبة رائعة للغاية بالنسبة إلى الحركة التي تأسست قبل 6 سنوات فقط.
وحركة «فوكس»، بطبيعة الحال، ليست هي الحركة الوحيدة المناهضة للمؤسساتية التي تفوز بالأصوات في إسبانيا. إذ أحرز «حزب بوديموس»، بزعامة بابلو إغليسياس، أداءً أسوأ بكثير مما كانت عليه الأوضاع في عام 2015، عندما يتعلق الأمر بمجابهة «الاشتراكيين» في حلبة الانتخابات الإقليمية الوطنية. بيد أن صناديق الاقتراع لا تزال سخية بعض الشيء وتمنح الحزب نسبة تتراوح بين 12 و13 في المائة من أصوات الناخبين، ما قد يجعله من بين اللاعبين في بنية ائتلاف ما بعد الانتخابات. كما تحظى الأحزاب الإقليمية بالزخم والقوة أيضاً، بما في ذلك حزب اليسار الجمهوري الكاتالوني المؤيد للاستقلال.
ولاحظ أنطونيو باروسو، الباحث في مؤسسة «تينيو»، أن هناك الكثير من الناخبين الذين لم يحزموا أمرهم بعد، وهم بنسبة تصل إلى 4 من كل 10 ناخبين. غير أن التيمة الغالبة على الجولة الانتخابية الراهنة تتعلق بالتشرذم بين الناخبين. لأن الحزبين الرئيسيين اللذين هيمنا على مشهد السياسة الإسبانية خلال العقود الأربعة المنقضية، وهما «الاشتراكيون» و«حزب الشعب»، باتا يكافحان أيما مكافحة الآن للفوز بأكثر من نصف إجمالي الأصوات فيما بينهما. فهل سوف تنجذب مدريد بين أطراف الطيف السياسي كما يأمل ستيف بانون؟
ومن حسن الطالع بالنسبة لذوي التوجهات المعتدلة، أن ذلك الأمر غير مرجح الحدوث. فهناك ثلاث نتائج محتملة لهذه الانتخابات، ولا يبدو أي منها مثيراً للقلق أو المخاوف بحال. النتيجة الأولى تتعلق بالحزب الاشتراكي الحاكم، الذي تصدر استطلاعات الرأي بنسبة 30 في المائة، ليشكل ائتلاف اليسار بدعم من «حزب بوديموس» وبعض الأحزاب الإقليمية الأخرى. وعلى نحو بديل، ربما يتحول بيدرو سانشيز، زعيم الحزب، صوب الوسط محاولاً تشكيل تحالف مع «حزب سيودادانوس» الوسطي، على الرغم من أن زعيمه ألبرت ريفيرا قد أعلن استبعاده لهذا الخيار تماماً.
فإن تمكن سانشيز من تكوين أي من هذه الشراكات (وهو أمر بعيد تماماً عن أرض الواقع)، فليس هناك الكثير مما يثير قلق الاتحاد الأوروبي أو مخاوف المستثمرين، بصفته رئيساً للوزراء، فلقد اعتمد أجندة سياسية ذات توجهات يسارية تقليدية، مقترحاً زيادة الضرائب على الأثرياء والمصارف بهدف تمويل الإنفاق على الاستحقاقات الأخرى. وتعتبر نادية كالفينو وزيرة الاقتصاد من كبار المسؤولين السابقين في الاتحاد الأوروبي، ومن غير المرجح أن ترغب في إغضاب بروكسل إن احتفظت بمنصبها في التشكيل الوزاري المقبل. وحتى في حالة الشراكة مع «حزب بوديموس»، فمن المحتمل أن تتعامل إسبانيا مثل البرتغال التي حاولت حكومة أنطونيو كوستا اليسارية فيها تخفيض العجز في الميزانية عن طريق التعويل على أولويات الإنفاق الاجتماعي في مجالات مهمة مثل مشروعات البنية التحتية.
والنتيجة الثانية المحتملة هي تشكيل الحكومة الجديدة من «حزب الشعب» و«حزب سيودادانوس» بدعم من حركة
«فوكس» الشعبوية، كما هي الحال في إقليم الأندلس. وهذا مما يصعب تصوره على اعتبار صدارة «الحزب الاشتراكي» لاستطلاعات الرأي الانتخابية والحساسية الشديدة التي تعتري «حزب ريفيرا» الوسطي بشأن تحوله إلى تيار اليمين. ومع ذلك، فإن تحالف يمين الوسط، لن يشكل كارثة خطيرة على اقتصاد البلاد. فمن شبه المؤكد أن يعتمد الائتلاف سياسة تخفيض الضرائب، وتلمس سبل التمويل عن طريق تخفيض الإنفاق العام. وهذا بالكاد يماثل عصبة تيار اليمين الإيطالية، التي تريد فرض الضرائب «الثابتة» ولكنها غير مستعدة في الوقت نفسه لتخفيض الضرائب عوضاً عن ذلك.
أما النتيجة الانتخابية الثالثة المتوقعة هي أن التشرذم السياسي بات أكبر من السماح بتشكيل الحكومة الجديدة. وفي هذه الحالة، سوف تنطلق إسبانيا مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع، ربما بحلول موسم الخريف. ومن الواضح، أنه سوف يكون من الأفضل كثيراً لمرشحي التيار السياسي السائد للتوصل إلى حل وسط يتعلق ببرنامج داعم للتعافي الاقتصادي الوطني الذي كان متباطئاً في قوة ورزانة. حتى إن لم يفعلوا ذلك، فلقد أثبت الاقتصاد الإسباني مرونته وقوة تحمله وتكيفه مع مختلف الأوضاع بما في ذلك غياب الحكومة القوية.
هناك روح من التفاؤل شائعة بين أوساط المستثمرين، حيث إن العائدات على أرباح سندات السنوات العشر الإسبانية كانت مرتفعة النذر اليسير لأكثر من نقطة مئوية كاملة من نظيرتها الألمانية، وأدنى من السندات الإيطالية. وبعد كل هذا الزخم الكبير الذي اجتاح محيط الجنوب الأوروبي السياسي خلال العقد الراهن، بما في ذلك أزمة إقليم كاتالونيا، لا تزال إسبانيا غير مثيرة للقلق الكبير بصفة نسبية. وهذا من قبيل المجاملات على أفضل تعبير.
* بالاتفاق مع {بلومبرغ}