سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

إنهم كأهل مكة أدرى بشعابها

في يناير (كانون الثاني) قبل الماضي دعا الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إلى مؤتمر جامع في رحاب المشيخة، وكان الهدف هو نصرة القدس، وكان من الطبيعي أن يكون الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على رأس المدعوين فوق منصة المؤتمر!
قبلها بشهر واحد، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، قد أعلن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكان قد برر الخطوة من جانبه، بأنه كان قد وعد بها وقت ترشحه في انتخابات الرئاسة، وأنه يريد من خلالها أن يفي بالوعد الانتخابي، الذي كان قد أخذه على نفسه أمام ناخبيه!
وكان تبريره ينطوي على مغالطة واضحة من جانبه، فليس هناك رئيس أميركي دخل البيت الأبيض من قبله، فيما بعد احتلال القدس، إلا وكان قد قطع الوعد ذاته على نفسه أمام الناخبين، ولكن أياً منهم لم يفكر بعد فوزه في تنفيذ هذا الوعد الانتخابي بالذات، لأنهم جميعاً كانوا يعرفون أن الانتقال به من مرحلة الوعود الانتخابية المجردة، إلى خانة الفعل الحقيقي على الأرض، ليس من الحكمة في شيء، وليس في صالح القضية الأم في الشرق الأوسط، ولا في صالح استقرار المنطقة كلها!
وكانوا جميعاً يتصرفون مع هذا الوعد، في مرحلة ما بعد الفوز، بالطريقة نفسها التي كانت المرأة دنلوب تتصرف بها في الأسطورة اليونانية الشهيرة، فلقد كان زوجها قد غاب عنها في الحرب، وكان هناك اعتقاد يشبه اليقين في أنه قد مات، وكان شباب كثيرون قد تزاحموا على بابها، وكان كل واحد منهم يطلب يدها عروساً له، وكانت هي لا ترد أحداً منهم، ولكنها كانت تستمهلهم جميعاً، وكانت تقول لكل عريس منهم يفاتحها في الموضوع، إنها لا مانع عندها، وإنها فقط تريد منه الانتظار حتى تنتهي من ثوب في يدها كانت تنسجه!
وكانوا ينتظرون على الباب في شوق، وكان الأمل يراودهم بقوة، إذ ما أهون الثوب الذي في يدها، وما أقصر الوقت المطلوب لإنجازه، وما أسرع ما سوف توافق بالتالي، وكان كل شاب منهم يُمنّي نفسه، ولم يكونوا يأخذون بالهم من حيلة ذكية كانت دنلوب تتبعها معهم، فلقد كانت تفك ليلاً ما أنجزته نهاراً، وكانوا كلما نظروا إليها رأوا بأعينهم أنها لا تزال تحاول الانتهاء من ثوبها الذي بين يديها، ولم تكن بالطبع تنتهي كلما عادوا إليها يستطلعون الأمر، ولم يكونوا ينتبهون إلى الحيلة التي لجأت لعلها تتجنب تطفلاً لم يكونوا يتوقفون عنه، ومع ذلك ظلوا يطلبون، وظلت هي تشير إلى الثوب بما معناه أنه لم يكتمل بعد!
هكذا كان الرؤساء الأميركيون يتصرفون في قضية القدس، إذا ما فازوا ودخلوا المكتب البيضاوي، وكان كل رئيس منهم يقضي سنواته الأربع، أو الثماني، متشاغلاً عنها على طريقة دنلوب تماماً، حتى إذا غادر جاء من بعده رئيس جديد، فتبدأ الأسطورة القديمة في العمل من جديد!
إلا ترمب... الذي بدا أنه لا يؤمن بالأساطير اليونانية من هذا النوع، ولذلك سارع إلى الإعلان عن اعترافه بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ولم ينتبه إلى أن بلاده كانت دوماً تعرض ممارسة دور الوسيط بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، أو العربي والإسرائيلي، وكانت تمارس هذا الدور أحياناً، كما حدث وقت مفاوضات كامب ديفيد بين القاهرة وتل أبيب، ولم ينتبه إلى أن للوسيط صفات لا بد من توافرها فيه، وفي المقدمة منها أن يكون نزيهاً، وإلا فإنه يفقد صفته المطلوبة فيه، ولا يعود صالحاً لممارسة دور الوساطة!
وهذا تحديداً هو ما دعا الرئيس أبو مازن، إلى البحث عن وسيط بين الأوروبيين يكون نزيهاً، ليس لأنه يرفض الوسيط الأميركي على إطلاقه، ولا لأنه يريد افتعال مشكلة مع الأميركيين، ولا لأنه يريد عداءً مع ساكن البيت الأبيض، وإنما لأنه صاحب قضية عادلة، ويتوقع من الوسيط فيها أن يتطلع إليها على أساس أنها عادلة، قبل أن يتعامل معها على أي أساس آخر!
ثم هذا أيضاً هو ما دعاه في مؤتمر الأزهر إلى أن يدعو كل عربي، وكل مسلم، وكل مسيحي، إلى شد الرحال للقدس، حتى لا تُترك وحدها، وحتى لا تقف بمفردها في مواجهة المحتل الذي يتغول عليها، وعلى مقدساتها، وعلى معالمها، مع كل طلعة نهار!
وربما نذكر الآن، أن نداء الرئيس عباس قد صادف عدة استجابات عربية، فرأينا يوسف بن علوي، وزير خارجية سلطنة عُمان، يشد الرحال إلى القدس، ويتجول فيها، ويصلي في مسجد قبة الصخرة، برفقة مسؤولين فلسطينيين كانوا سعداء للغاية بالزيارة، ومرحبين بصاحبها، وكان لسان حالهم يدعو إلى زيارات أخرى مثيلة لها، ويترقبها، ثم تابعنا ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي، وهو يفعل الشيء نفسه، الذي فعله بن علوي، ومن قبل نداء الرئيس عباس، كان وزير الخارجية الكويتي الشيخ خالد الصباح، قد شد رحاله دون انتظار لنداء يأتيه!
ولكن لأنها استجابات رسمية، أكثر منها استجابات شعبية، فمن الواضح أنها رغم أهميتها طبعاً، لم تكن هي بالضبط الشيء الذي قصده عباس من وراء النداء، وانتظره، وجلس يتطلع إليه، فعاد من جديد ينادي بشد الرحال، ويكرره، ويضغط على المعاني المقصودة فيه!
ففي إطلاق فعاليات القدس عاصمة للثقافة الإسلامية، التي جرت أول هذا الأسبوع في رام الله، كنا على موعد مع خطاب متلفز منه، راح فيه يطلب من كل عربي، وكل مسلم، وكل مسيحي، أن يشد الرحال إلى القدس دون تردد ولا تقاعس، لا لشيء، إلا لأنها لا تكون قدساً في ظنه، بغير أحبابها وأهلها من العرب، والمسلمين، والمسيحيين، ولذلك قال: فمَنْ استطاع منهم ثم لم يفعل فلا عذر عنده!
إنني أعرف أن كثيرين بيننا ممن لا يجلسون في مواقع رسمية، ينظرون إلى ما يدعو إليه الرئيس الفلسطيني بحساسية شديدة، لأنهم يرون في شد الرحال نوعاً من التطبيع مع المحتل، وهذه زاوية من زوايا النظر إلى الموضوع، لا بد أن تكون محل اعتبار، وأن توضع في الحساب، عند التعامل مع ندائه الذي أطلقه في رحاب الأزهر، ثم عاد فأطلقه مرة أخرى في سماء رام الله، ولكن، ما عذرنا إذا كان صاحب القضية نفسه هو الذي يطلب، ويشجع، ويدعو؟!... إنه في آخر المطاف أدرى الناس بما يطلبه، ويقوله، ويدعو إليه، تماماً كما أن أهل مكة أدرى بشعابها!