تتكاثر الأسئلة حول دلالات أحداث السودان والجزائر الأخيرة، وأبرزها ما إذا كان ما نشهده من أحداث في الدولتين العربيتين يمثل الفصل الثاني من الثورات والتقلبات التي شهدها العالم العربي عام 2011، أو ما يسمى «الربيع العربي».
لا شك أن الكثير قد حل بالعالم العربي خلال السنوات الثماني الماضية، وعلى رأسها الأزمة السورية، وانقلاب الحوثيين في اليمن، والحرب التي تبعته، وتوسع النفوذ الإيراني السلبي في المنطقة، وتراجع فرص قيام الدولة الفلسطينية، بسبب السياسات الإسرائيلية والأميركية المكرسة للاحتلال، ناهيك عن ظاهرة «داعش» والدمار الذي جلبه التنظيم الإرهابي للمنطقة. فلا يمكن ربط أحداث ربيع 2011 بالأحداث الجارية الآن، من دون الأخذ بعين الاعتبار ما حدث بين الزمنين. ولا يمكن استبعاد تأثير التطورات في بلد عربي ما على باقي المحيط العربي. رغم أن لكل دولة خصوصيتها وواقعها الذي يحدد مجرى الأحداث السياسية فيها.
مع ذلك، هناك علامات فارقة تربط أحداث السودان والجزائر بأحداث 2011. من بينها أنها تبرز خللاً في غالبية الأنظمة الجمهورية العربية. الواضح هو أن النظام الجمهوري العربي ما زال يواجه تحديات كبرى، على رأسها انعدام وجود الآلية السليمة للانتقال السلمي للسلطة. ومن اللافت أن التغيير الذي يحدث يأتي بعد تظاهر قائد ما بمبادئ «الديمقراطية» من دون تنفيذها على أرض الواقع. وأبرز الأمثلة على ذلك إجراء الكثير من الدول مثل سوريا والجزائر وغيرها انتخابات، يدعي القائد فيها بأنه «يفوز» بالتأييد الشعبي الواسع من دون أبسط معايير الشفافية والنزاهة في التصويت.
كما أن عملية التصويت بمفردها لا تشكل النظام السياسي المتكامل للحكم، ولا تصبغ عليه صفة الديمقراطية. وكان من اللافت أن ما دفع الشعب الجزائري إلى الشارع للمطالبة بتنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، جاء نتيجة الاستعداد للانتخابات نفسها، التي أراد أن يخوضها للمرة الخامسة. فآلية الانتخابات التي كان يريد بوتفليقة استخدامها لإثبات «شرعيته» باتت هي سبب إسقاط حكمه. زمن تكرار الانتخابات التي تجلب نسباً شبه كاملة لصالح إعادة انتخاب «الزعيم» قد ولى.
يصادف هذا الشهر ذكرى مرور 20 عاماً على تولي بوتفليقة الحكم، وبعد عقدين من الحكم لم يقم النظام ببناء آلية سليمة لنقل السلطة للجيل المقبل. والأمر نفسه بالنسبة للسودان الذي بعد 3 عقود من حكم عمر البشير لم يخرج جيل جديد يتولى الحكم في البلاد، رغم القدرات السودانية الواعدة.
هناك واقع لا يمكن تجاهله، وهو أن ثلثي سكان العالم العربي هم دون الـ30 سنة، ومن حقهم أن يشاهدوا في دوائر الحكم من يمثلهم في التطلعات والآراء. هذا لا يعني بالضرورة أن يكون الرئيس شاباً، بل أن يظهر قدرته على إعداد الجيل المقبل من القيادات التي ستتولى الحكم مستقبلاً. وعلى القائد، على الأقل، أن يحيط نفسه بوزراء ومستشارين من جيل يستطيع التواصل مع غالبية الشعب، ويطمئنهم أنه يعدّ لجيل مقبل من القيادات. فهل يعقل أن السلطة الفلسطينية التي يقودها الرئيس محمود عباس إلى اليوم لم تمهد الطريق إلى اليوم لجيل جديد يمكنه تولي القيادة الفلسطينية؟ وهل من المقبول أن تكون الرئاسة حكراً على مجموعة وصلت إلى الحكم قبل عشرات السنين، وترفض التخلي عنه؟
ومن المقلق متابعة الأحداث في تونس. فحركة «نداء تونس» تواجه تهديداً داخلياً، مع مخاوف من «توريث» الرئاسة لنجل الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، حافظ. وقد أعلنت النائبة التونسية فاطمة المسدي استقالتها من حركة «نداء تونس» الأسبوع الماضي على إثر ذلك، بعد انشقاقات سابقة في الحركة للسبب نفسه.
إصرار القيادات في الجمهوريات على عدم إعداد جيل جديد من الزعماء أدى إلى تراجع فرص الانتقال السلمي، فبات من يظهر صفات القيادة يعتبر خطراً، بدلاً من أن يكون ذخراً للبلد. ولذا نرى اليوم في السودان والجزائر أسئلة مكررة حول من يمكنه أن يتولى الحكم. وهذا ليس لأن الشعبين السوداني والجزائري ينقصهما من لديه صفات القيادة الحكيمة، بل لأن كل من أظهر تلك الصفات تم استبعاده عن دوائر الحكم.
والحل حقيقة لا يكمن باسم أو هوية المرشح القادم، الذي سيشغل منصب الرئاسة في الخرطوم أو الجزائر، بل يكمن في وضع القوانين والآليات للانتقال السلمي للسلطة وبشفافية الآن ومستقبلاً. فمن الضروري انتهاز هذه الفرصة لإعداد القيادات الصالحة لتولي القيادة في الوقت المناسب.
هناك ظاهرة أخرى تجمع بين أحداث ربيع 2011 والتطورات الحالية، وهي النظر إلى الجيش، ليقوم بدور القيادة ومسك زمام الأمور، ولو لفترة انتقالية. وعادة ما ينظر إلى الجيش على أنه الحامي للدولة ومؤسساتها. ولا شك أن هناك حاجة لمراقبة دور الجيش في الحكم. وقد عانى العالم العربي ما عاناه من الانقلابات العسكرية، والأمثلة كثر، على رأسها الانقلاب العسكري الذي أطاح النظام الملكي في العراق، والذي ما زال العراق يعاني من تبعاته.
وقد أثبت الواقع أن الجيش عادة ما يمثل المؤسسة الأكثر انضباطاً في الجمهوريات العربية، وفيه تراتبية تسمح بالقيادة والانضباط.
ودولة مثل السودان بحاجة إلى القيادة والانضباط، ولكن أيضاً بحاجة لفترة انتقالية تفسح المجال للتغيير الحقيقي والإصلاح الداخلي. دور الجيش في التهدئة وتأمين البلاد لا يمكن التقليل من شأنه.
وعلى الرغم من أن التغيير في العراق عام 2003 جاء نتيجة حرب وغزو أميركي، فإن هناك دروساً يجب تعلمها أيضاً من التجربة العراقية. هناك إجماع داخلي وخارجي على أن القرار الثاني لسلطة الائتلاف المؤقتة «برئاسة بول بريمر»، الصادر في 23 مايو (أيار) 2003 بحلّ الجيش العراقي كان من أكثر القرارات ضرراً على البلاد وكارثياً على مستقبله، ما أدى إلى فوضى ما زال العراق يعاني منها.
هناك 3 عناصر أساسية ستحكم على المرحلة الانتقالية في السودان والجزائر، ومصير التغييرات التي يشهدها البلدان. أول عنصر هو قدرة المؤسسات في الدولة، مثل الجيش، على وضع الأرضية السليمة للانتقال، والثاني هو ضبط الشارع بغرض تأمين البلاد، وليس لغرض قمع الحريات. أما العنصر الثالث فهو تأمين العيش الكريم للمواطن. وفي النهاية، هذا هو دور القيادة في أي بلد. والواقع الذي لا يمكن تجاهله في العالم العربي هو أن نحو ثلث الشباب يعانون من البطالة أو البطالة المقنعة. لا يمكن فصل الواقع الاقتصادي عن الواقع السياسي، الذي يحدد مجرى حياة الناس وكرامتهم. فهل سيجد هؤلاء قيادة جديدة تعمل على تأمين مستقبلهم أم لا؟ هذا هو الاختبار الحقيقي.
7:52 دقيقه
TT
دلالات أحداث السودان والجزائر الأخيرة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة