طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

هل القُبح أيضاً له ثمن؟

«سوق الحلاوة جبر واتقمعوا الوحشين»، هذا هو المثل الشعبي المتداول، عندما يُصبح للقبح ثمن ومريدون، وهو ما يمكن أن تلمحه فيما نشرته مجلة «زهرة الخليج»، في تحقيق مصور عن المعرض المتخصص في بيع لوحات الفن السيئة، انطلق المعرض قبل نحو ربع قرن في ولاية ماساتشوستس الأميركية، اللوحات التي كان مصيرها الاستبعاد باتت تجد رواداً ينتظرونها، بدأت الفكرة عندما التقط أحدهم لوحة من صندوق القمامة، تم تعليقها، فلاقت استحساناً وتهافت البعض على اقتنائها، فصار المعرض له زبائن، وازداد عدد اللوحات السيئة، بعض من الفنانين، يتقدم مباشرة للمعرض، إلا أنهم يشترطون القبح غير المتعمد لأنه عادة ما ينطوي على خفة ظل. هل يُثمّن الناس القبح، أم أن الومضة غير المكتملة هي التي تدفعهم لشراء اللوحة؟
بالتأكيد لن تجد مثلاً عشرات المعارض في العالم تحتفي بالقبح، ولكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، وهي أن الجمال يكسب في نهاية المطاف، مع الأخذ في الاعتبار أن الجمال ليس هو الكمال، حتى لو امتلك قدراً منه، إلا أنه يتجاوزه، لآفاق أبعد تمنحه سحراً خاصاً.
هل لما نُطلق عليه «سيئاً» أو «مستبعداً» استخدامات أخرى؟ بعض الأفلام بعد قراءة كلمة النهاية تُقدم عدداً من اللقطات تم الاستغناء عنها في «المونتاج»، لأن بها أخطاء ممثل لم يتمالك نفسه من الضحك، أو تلعثم في الحوار، أو لأن الأداء يعوزه الصدق، وغيرها، ورغم ذلك فإن هذه اللقطات المعروضة بعد «تتر» النهاية، هي تحديداً التي يتذكرها الجمهور.
عدد من الفنانين مصابون بمرض «الوسوسة»، أي أنه يظل غير مقتنع بما قدمه، ولهذا كثيراً ما يعيد النظر في العمل الفني أكثر من مرة، من أشهر هؤلاء الموسوسين الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان الشاعر أحمد شفيق كامل، الذي كتب أغنية «أنت عمري»، التي جمعت لأول مرة بين القطبين صوت أم كلثوم ونغمات عبد الوهاب، كان شفيق من دراويش عبد الوهاب، حتى إنه وأم كلثوم على قيد الحياة كثيراً ما صرح للصحافة، أنه يفضل أن يستمع إلى «أنت عمري» بروفة على العود بصوت عبد الوهاب، أفضل من صوت أم كلثوم في حفل جماهيري.
شفيق كامل من فرط حبه لعبد الوهاب، كثيراً ما كان يتابعه ومعه جهاز تسجيل يلتقط البروفات الأولى للألحان، سواء التي غناها عبد الوهاب بصوته أو لحّنها لآخرين، معتقداً أن هذا الأمر سيرضي عبد الوهاب، إلا أنه في جلسة خاصة أراد أن يستأذنه فرفض، وعندما أخبره بما لديه من عشرات التسجيلات، طلب منه أن يمسحها كلها، وبعدها ببضع سنوات، قال له: «يا ريتك يا شفيق كنت سجلت من غير ما تقول إنك سجلت».
نعم من الممكن أن تنطوي تلك البروفات على قدر من السحر لأنها تتحرر غالباً من القواعد الصارمة، قد توضع مثلاً في متحف سمعي تحت عنوان «قبل اللمسة الأخيرة»، إنها تلك اللمسة الهاربة، التي تفرض على بعض المبدعين إعادة كتابة مؤلفاتهم أكثر من عشرين مرة حتى يعثروا عليها.
نعود إلى سؤال البداية، هل فعلاً يشتري الناس العمل الفني القبيح، أم أن ومضة الجمال حتى لو جاءت غير مكتملة، هي الدافع للاقتناء؟ أتصور فعلاً أن السر يكمن في تلك الومضة التي ترنو دون جدوى للكمال.