سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

سؤال وجوابه في منتدى دبي

في جلسة بيننا على هامش منتدى الإعلام العربي، الذي دعا إليه نادي دبي للصحافة قبل أيام، سألني الأستاذ جمال بن حويرب، نائب رئيس قمة المعرفة السنوية، هذا السؤال: تتحدثون كثيراً عن تراجع في توزيع الصحف الورقية، عربياً، فهل سألتم أنفسكم: لماذا لم يتراجع توزيع صحيفة مثل صحيفة «الفايننشيال تايمز»؟! وقبل أن أجيب كان هو قد أكمل سؤاله: هل تعرفون أن توزيعها لم يحتفظ بأرقامه المرتفعة فقط، بل إنه يزداد ويرتفع، وأن ذلك يحدث مع ازدياد بطبيعة الحال في أعداد الذين يدخلون على موقعها الإلكتروني؟!
وحقيقة الأمر أن ما قاله الرجل عن هذه الصحيفة الإنجليزية، التي تتعرض للشأن الاقتصادي العالمي بالأساس، ليس سراً على أحد؛ خصوصاً الذين يتابعون أحوال الصحافة حول العالم، فما يقوله صحيح، وما يقوله لا ينطبق عليها وحدها، ولكنه ينطبق كذلك على صحيفة أخرى هي «نيويورك تايمز» الأميركية، التي يصل توزيعها إلى ستة ملايين نسخة يومياً، ثم ينطبق بالقدر نفسه على الصحف الرئيسية في الهند، وفي اليابان؛ حيث توزع صحف الصباح في البلدين ملايين من النسخ في كل نهار!
وقد كانت المناسبة التي جرى فيها طرح هذا السؤال من جانب صاحبه، أن المنتدى وهو يعقد دورته الثامنة عشرة هذه السنة، كان يذهب إلى دورة جديدة بعنوان عريض، وكان العنوان يبدو من حيث صياغته، راغباً بجد في تجاوز الواقع الذي يعيشه إعلامنا العربي بدرجات مختلفة من المعاناة، إلى مستقبل يستحقه المواطن في كل عاصمة عربية، وينتظره، ويتمناه!
كانت الأستاذة منى المري، رئيسة النادي، قد وقفت تلقي كلمة موجزة في جلسة الافتتاح، بحضور الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، وكانت تقول ما معناه أن شعاراً من أربع كلمات ترفعه الدورة الجديدة هذه السنة، وأن الكلمات الأربع هي: «الإعلام العربي... الواقع والمستقبل»، وأن النظر في خريطة الواقع الذي نعيشه إعلامياً، لا يكون بالتأكيد من أجل النظر فيه بحد ذاته، وإلا صار الأمر تكريساً لما لا نريده، ولا نحبه، ولا نرضى به، ولكنه النظر الذي ينشغل بالذهاب إلى مستقبل لا ينتظر أحداً!
وكانت إحدى منصات المنتدى قد استقبلت مذيعاً آلياً، ينطق بصوت المذيع مصطفى آغا، الذي انتظره جمهوره على المنصة، فإذا بالروبوت هو الذي يصعد بدلاً منه فوقها، وإذا به يتحدث مع الحاضرين، ويتفاعل، ويبدو منصتاً لأسئلتهم، وتساؤلاتهم، وابتساماتهم التي بدت حائرة على الوجوه، ولولا بقية مما يميز الإنسان الطبيعي عن الروبوت بالضرورة، لكان المذيع الآلي قد راح يضحك، ويندهش، ويبتسم، كما يفعل كل واحد منا في حياته!
ورغم أن مشهد المذيع الآلي ليس جديداً على العالم، ورغم أن مذيعة آلية ظهرت في الصين في السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، ورغم أنها لا تزال تظهر ولا تزال تقدم برنامج منوعات، ورغم أنها تحقق مشاهدات عالية، ورغم أن مذيعاً من لحم ودم يشاركها التقديم، رغم هذا كله، فإن ظهور روبوت الآغا في منتدى إعلام دبي، يشير إلى شكل المستقبل الذي يذهب العالم من حولنا إليه، ويشير إلى أن ذهابنا معه ليس خياراً في قائمة أمامنا، نستطيع أن نتفحص البدائل المتاحة فيها ونختار!
ولا بد أن في مثل هذه القائمة الافتراضية بديلاً رئيسياً، ولا بد أنه يتمثل في ضرورة انتباه الذين يتصدون للإعلام أمام المتلقي العربي، إلى أنه يبحث بالأساس عن محتوى، وأنه يبحث عن صياغة جيدة لهذا المحتوى، وأن انصرافه عن هذه الصحيفة، أو عن تلك الشاشة، إلى مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها، ليس لمجرد أن هذه المواقع تقدم له ما يريده خبرياً بسرعة وسهولة، ولكن لأن الإعلام التقليدي المتمثل في الصحيفة المكتوبة، وفي الشاشة المرئية، لا يزال يتعامل في أغلبه مع جمهوره، وكأن هذه المواقع لا وجود لها، أو كأنها موجودة ولكنها لا تجذب جمهوره وتشده بكل المغريات الإعلامية الممكنة!
إن رسوخ المحتوى، وقوته، وجودته، هو الثلاثي الذي يجيب عن سؤال «الفايننشيال تايمز» في أول هذه السطور، ثم يجيب عن السؤال نفسه إذا ما تعلق بـ«النيويورك تايمز»، أو بما يماثلها في صحف الهند واليابان!
وعندما أشار علي الرميحي، وزير الإعلام البحريني، في جلسة افتتاح المنتدى، إلى أن الإعلام التقليدي لا يزال يعرف الحد الأدنى من المسؤولية فيما ينشره، ولا يزال يراعي القيم العربية الباقية ويحافظ عليها، كان يجيب بشكل غير مباشر، عن السؤال نفسه بطريقة مغايرة!
فالقصة ليست قصة صحيفة تخرج على القراء بانتظام عند كل صباح، ولا هي قصة شاشة تضيء على امتداد ساعات اليوم، ولا تنطفئ، ولكن القصة فيما تحمله كل وسيلة منهما إلى جمهورها، وفي قدرتها على أن يكون ما تقدمه منطوياً على مضمون، وفي مهارتها في أن يقترن المضمون بأداء من نوع مختلف، فهذا النوع من الأداء هو الذي جعل «الفايننشيال تايمز»، تحتفظ بجمهورها الذي عاشت تعرفه ويعرفها، رغم تخصصها في قضايا الاقتصاد ذات الطابع الجاف، ومع جمهورها القديم هذا، الذي ربما يزيد أكثر في مستقبل الأيام، اجتذبت جمهوراً جديداً لموقعها على النت، دون أن يطرد أحدهما الآخر!
وقبل ثلاثة أيام، كان قراء جريدتنا هذه قد طالعوا خبراً يقول، إن العدد الثالث من مجلة «زاديج» الفرنسية قد وزَّع سبعين ألف نسخة، هي كل المطبوع من العدد، وأن إدارتها وعدت بطرح عشرين ألفاً إضافية، وأن غلاف العدد كان يحمل عبارة من كلمتين، هما: «إصلاح فرنسا»، وأن المجلة تتبنى قضية جادة في كل عدد يناقشها أصحاب رأي، ومثقفون، ومحللون جادون، وأن رئيس تحريرها الذي اشتغل في صحيفة «لوموند» من قبل، كان يتوقع وصول التوزيع إلى 25 ألفاً بالكاد، وأن هذه هي المرة الأولى التي تتصدر فيها مجلة قائمة المطبوعات الأكثر توزيعاً في فرنسا، وأن سعر النسخة 19 يورو!
وحين طالعت الخبر بدا لي منذ الوهلة الأولى، وكأن صدفة عجيبة قد ساقته دليلاً على ما أحاول أن أشير إليه من بداية هذه السطور، فهذه مطبوعة ورقية تنفد من المكتبات الفرنسية، في الوقت ذاته الذي لا نتوقف فيه عربياً عن التبشير بانتهاء عصر المطبوعة المقروءة، وهذه أيضاً مطبوعة تقول بالأرقام المسجلة في قوائم توزيعها، إن صدق الكلمة من جانب الكاتب، يصادف تجاوباً صادقاً لدى المتلقي، وإن مواقع التواصل بريئة من التراجع الذي أصاب مطبوعاتنا العربية في غالبيتها، وإن للتراجع أسباباً متنوعة، وإن شيوع المواقع سبب طبعاً، ولكنه ليس كل الأسباب ولا حتى أقواها!
وظني أن ضيق هامش الحريات المتاح أمام الغالبية من المطبوعات التي تشكو تراجع توزيعها، يأتي على رأس هذه الأسباب، فالحريات لها رائحة يشمها القارئ، قبل أن يتلمسها فيما هو منشور بين يديه، ولن ننتقل إلى المستقبل الذي دعا إليه منتدى نادي دبي للصحافة في شعار دورته المنقضية، إلا إذا آمنا بأن الحريات قيمة باقية، وأن الإيمان بها لا ينفصل عن الممارسة لها، وأنها هي التي ترفع مطبوعة دون سواها من المطبوعات، وأن التفريط فيها لا يجوز، بمثل ما أن الإفراط فيها عمل غير مسؤول!