د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

أوروبا الصينية

بيّن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي أن الشعوبية لم تعد مجرد موجة تجتاح العالم، بل غدت واقعا يجب التعامل معه، ومنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة، تولت حكومات شعوبية زمام دول كثيرة مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وبولندا وغيرها. وكان حتما لسياسات هذه الدول أن تتغير مع استبدال قياداتها، فاندلعت حرب اقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تنطلق من دافع حماية الحقوق الأميركية الاقتصادية وتتّبع سياسة حماية اقتصادية بحتة، تماما كما كان دافع بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. هذا الخروج الذي دفع بباقي الدول الأوروبية لإعادة النظر في مصالحها بعيدا عن مصالح الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك من إعادة تقييم للعلاقات التي بنيت على أساس مصلحة الاتحاد. ولعل اللقاء الإيطالي الصيني خلال الأيام الماضية خير دليل على أن علاقات الدول الأوروبية مع غيرها أصبحت محكومة بمصالح الدول نفسها لا بمصالح الاتحاد.
الاتحاد الأوروبي لا ينظر للصين من منظور واحد فقط، فهو يرى الصين على أنها منافس يهدف إلى اكتساح الأسواق العالمية بمصانع وشركات مدعومة من الحكومة الصينية مخالفة لقوانين التجارة العالمية، بما في ذلك من تهديد للمصانع الأوروبية وما يرتبط بها من معدلات بطالة وغيرها. كما أنه على دراية بالسرقات الصينية لحقوق الملكية الفكرية الأوروبية، وانغلاق أسواقها أمام الشركات الأوروبية. ولكنه أيضاً يرى في الصين شريكا اقتصاديا لا يمكن إنكاره، فما يقارب 10 في المائة من الصادرات الأوروبية تذهب إلى الصين، و20 في المائة من الواردات لأوروبا تأتي من الصين، وعليه فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للصين، والصين هي ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة. ولكن الاتحاد الأوروبي رغم علاقته التناقضية مع الصين، إلا أنه لا يستطيع مجابهة الصين كما فعلت الولايات المتحدة، وهو – كما صرحت قياداته مؤخرا – لا يريد أن يكون طرفا في الحرب الاقتصادية بين الدولتين لأسباب كثيرة، منها أن الاتحاد الأوروبي نفسه ضحية رسوم «ترمب» تماما كما هي الصين، كما أن أوروبا ليست منعزلة جغرافيا عن الصين كما هو الحال مع الولايات المتحدة، فترتيبات هذه الحرب قد لا تتشابه بين أوروبا وأميركا.
هذا السبب تحديدا هو ما دعا إيطاليا إلى أن توقع مذكرة تفاهم مع الصين على دخول إيطاليا طرفا مشاركا في طريق الحرير الجديد والذي يربط الصين بأوروبا كلها، لتصبح بذلك أول دولة تقدم على هذه الخطوة من مجموعة السبع دول. ولهذه الاتفاقية ما يبررها، فالصين أكبر شريك آسيوي لإيطاليا وثالث أكبر مصدر للاستيراد، وإيطاليا من أهم مصادر الاستثمارات الأجنبية للصين وخامس أكبر شريك تجاري لها، وبلغ حجم التبادلات التجارية بين البلدين مليار دولار في العام ، أكثر بتسعة في المائة من العام . كما أن إيطاليا في موقف لا تحسد عليه من الناحية الاقتصادية، فهي ثاني دولة في الاتحاد الأوروبي من ناحية حجم الدين العام، بعد اليونان مباشرة! وهي لذلك تبحث عن تقوية شراكاتها الاقتصادية، لا سيما مع الصين أقوى اقتصاد نامٍ في العالم.
ولم يكن دخول إيطاليا في هذه الاتفاقية محببا لكثير من الدول، وتحديدا الولايات المتحدة، حيث صرح مسؤول إيطالي أن إدارة «ترمب» حاولت كثيرا ثني الحكومة الإيطالية عن توقيع هذه المذكرة. ولكن يبدو أن إيطاليا ضاقت ذرعا بشركائها من الغرب، وكأنها تصرح بأن هذه الشراكة لم تجلب لاقتصادها سوى الويلات، وأن الوقت حان للالتفات للشرق. ولا يستبعد أن تلحق فرنسا بإيطاليا، فهي واجهة أخرى للشراكة بين الصين وأوروبا كما سبق وأن صرح الرئيس الصيني، فحجم التبادلات بين البلدين أكثر من مليار دولار العام ، بنسبة زيادة بلغت في المائة عن العام . وهذا يعني أن فرنسا تشترك مع إيطاليا في زيادة شراكتها الاقتصادية مع الصين، كما أنها شريك حتمي للصين في حال أرادت الصين الوصول بطريق الحرير إلى بريطانيا.
شراكة الصين لأوروبا لم تعد عن طريق الاتحاد الأوروبي نفسه، بل هي شراكة مع دول تبحث عن مصالحها بعيدا عن الاتحاد، وإيطاليا ليست أول دولة أوروبية توقع مع الصين بخصوص طريق الحرير الجديد، ولكنها بلا شك أكبر دولة أوروبية فعلت ذلك. والمخاوف الأوروبية تنبع من إمكانية سيطرة الصين على موانئ أوروبية كما كان الحال مع اليونان من قبل، وحتى مع إصرار الصين على أن نفوذها في هذه الموانئ لا يتعدى كونه اقتصاديا – وهو ما صرحت به إيطاليا مع توقيع الاتفاقية - إلا أن الدول الغربية لا تفتأ بالتشكيك بالنوايا الصينية، معتقدة أن الصين تفرض نفوذها السياسي من خلال اقتصادها القوي. وفي حين يتهمها الأوروبيون بأنها تتخذ أسلوب «فرّق تسُد» لفرض نفوذها على أوروبا، إلا أن الواقع أن الدول الأوروبية نفسها تفرقت دون أن يكون للصين يد في ذلك، حتى مع استغلالها لهذه الفُرقة لصالحها.