إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ستالين الساق على الساق

هذا معرض تدخل إليه وتخرج منه بشعور من يتجول في أرض محروقة. إن رائحة الشياط ما زالت هنا. ولون اللهب لم ينطفئ بعد. والقائمون على هذا المعرض الذي يستضيفه «القصر الكبير» في باريس، لم يخطئوا حين اختاروا عنواناً له: «أحمر». وهو يأتي بعد مرور 100 عام على الثورة الروسية، ويجمع 400 قطعة من اللوحات والصور والملصقات واللافتات والتماثيل التي يمكن إدراجها في خانة الدعاية السياسية. ويقول لك الدليل إن هذه الأعمال تُعرض للمرة الأولى في العاصمة الفرنسية، وهي تمثل «الفن والطوباوية في بلاد السوفيات». ولا يملك المرء سوى أن يتأسّى وهو يقرأ أن الداعم الأكبر لهذا المعرض البروليتاري الأحمر هي شركة «توتال»، مدلّلة الرأسمالية.
يحب الفرنسيون الثورات، ويقترن اسمهم بواحدة من أشهرها في التاريخ. ومعظمنا نحن العرب نحبها أيضاً، ونشعلها، ونفرح بها، ثم لا نعرف كيف نطفئها. ونحفظ وصية إحسان عبد القدوس: «لا تطفئ الشمس». نتدفأ بها وقد نحترق ونتلوّن بالسخام. أمن أجل هذه الفكرة أقاموا هذا المعرض في أغلى بقعة من باريس؟ لكي يقولوا لجماهير الزوار: «إياكم»، أم لكي يعربد لسان حالهم: «اللهم لا شماتة»؟
بالنسبة لزائرة مثلي نشأت في ذلك البلد الحزين، فإن كل ما تقع عليه العين هنا يحيلني إلى صور من هناك. وكنا زغب الحواصل، كما يقول الشاعر الحطيئة، يوم جلسنا على مقاعد قسم الصحافة في جامعة بغداد، سنة سبعين، وسمعنا من الدكتور زكي الجابر كلمة «بروباغاندا» لأول مرة. كان أستاذنا قد عاد من نيويورك ومعه شهادة في الاتصال الجماهيري من جامعة كولومبيا. ومنه فهمنا أنها تعني نشر المعلومات بطريقة موجّهة ومن منظور أحادي، بهدف التأثير على الناس. هل كان علينا أن نشتغل بتلك المهنة، ونؤدي تلك الوظيفة بعد التخرج؟ كنا في أول الدوامة، وهناك «ثورة» جديدة طازجة في المطبخ، تجتهد لإنضاج طبق الحزب الواحد.
أفك ارتباطي بالذاكرة اللعينة، وأخطو في صالات معرض «القصر الكبير». أرى لافتات تعبوية، رجالاً مفتولي العضلات يقفون وراء مكائن الإنتاج، فلاحات بثياب مزركشة، أطفالاً بنظرات ثابتة وثياب عسكرية، فارساً منطلقاً فوق صهوة وذراعه ممدودة يرفرف منها علم أحمر، رائد فضاء ذا ابتسامة ناصعة. وهناك لوحة تجمع المجد من أطرافه، بالتسلسل من اليسار إلى اليمين: ماركس وإنجلز ولينين وستالين.
يتأمّل الزوار أمام لوحة كبيرة. إنها واسطة العقد في هذا المعرض. وفيها يبدو الرفيق ستالين، كما رسمه جيورجي روبليف في عام 1935، تراه جالساً مستريحاً على مقعد عالي الظهر، يرتدي قميصاً أبيض وجزمة طويلة. يطالع «البرافدا» وهو يضع الساق على الساق. إن ما يجذب النظر في الرسم ذي الخلفية البرتقالية الخلابة، ليس شاربه الكثّ الأسود، بل نظرة عينه اليسرى الماكرة تحت حاجب مرفوع. كأن ستالين يغري الرسام بأنه سيدخله التاريخ معه بفضل تلك اللوحة. والتاريخ مثل معطف المطر ذي الوجهين. وجه يسجّل المآثر وآخر يحفظ المجازر.
أتنقل مع الزوار بين قاعات تعرض أفلاماً وثائقية لموسكو أيام الهياج. ذهب الكرملين يلتمع تحت الضوء ولقطات للشغيلة في ساعة الاستراحة. أسمع خطابات وهتافات وأناشيد ثورية بلغة لا أفهم منها شيئاً. لا أحتاج لتعلم الروسية. تتكفّل ذاكرتي اللعينة بالترجمة الفورية إلى لغتي: «يا فلان اسمك هزّ أميركا».