د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

من يتحمل تكلفة التنمية؟

من الأمور اليسيرة سرد الكلمات عن طموحات برامج التنمية المستدامة وأهدافها السبعة عشر التي تعهدت قيادات الدول منذ أربعة أعوام ببلوغها مع حلول عام 2030، ثم يتبين مع مرور الأيام تعثر خطوات تنفيذها في كثير من البلدان النامية. فقد تقدمت للأمم المتحدة حتى اليوم عشر دول عربية، مع ثلاث وتسعين دولة أخرى، بتصورات لبلوغ هذه الأهداف، وستتبعها ست دول عربية وثلاث وأربعون دولة أخرى، متقدمة ونامية، في يوليو (تموز) المقبل. وتناولت تصورات الدول أبعاداً أربعة تتضمن نمواً اقتصادياً شاملاً للكافة يقضي على الفقر المدقع، وتنمية اجتماعية ترتقي بنوعية التعليم والرعاية الصحية، ومراعاة كاملة لاعتبارات البيئة وتغيرات المناخ، والتزاماً بقواعد الحوكمة وما تمليه دولة القانون.
وها هو العام الرابع يبدأ منذ الإعلان عن هذه الأهداف في سبتمبر (أيلول) 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة، شهدها قادة دولها الأعضاء، وها هي المؤشرات المتاحة لا تظهر ما يطمئن على أن العالم في سبيله حقاً لتحقيق هذه الأهداف. ولن تأتي معجزة لكي تحقق طفرة في تحقيق أهداف التنمية قبل أن يحل عام 2030، فلم تأتِ معجزات من قبل لاستنقاذ برامج سابقة دشنت ثم انتهت دون أن تحقق وعوداً وتعهدات أُلقيت فيها خطب رنانة عصماء وغير عصماء. إنما تحققت التنمية لمن أراد وأعد السياسات بإحكام ومكّن المؤسسات على قواعد من الالتزام ورتب الموازنات وأولوياتها بما يحقق أهداف التنمية وفق برامج زمنية ملزمة. بقي زهاء أعوام عشرة تفصل بين النجاح والفشل، وفيها سيتحدد من هم أصحاب التقدم في سباق الأمم، مخلفين وراءهم زمراً ممن سيعددون أسباب الفشل والمتعجبين ماذا دهاهم وقد كانوا جديرين بتقدم فاتهم قطاره؟!
وقد أُعدت دراسة حديثة صدرت عن صندوق النقد الدولي لتحديد تكاليف التنمية المستدامة أُجريت على 155 دولة، منها 34 دولة ذات اقتصاد متقدم و49 دولة منخفضة الدخل و72 دولة ذات اقتصادات ناشئة. وحددت الدراسة خمسة مجالات فقط لإجراء مراجعة تكاليف تطويرها وفقاً لمتطلبات التنمية المحددة في برامج 2030، وهي مجالات التعليم والصحة والطرق والكهرباء والمياه. وتبين من هذه الدراسة أن الدول منخفضة الدخل تحتاج لزيادة سنوية في إنفاقها بمتوسط 15 في المائة من دخولها القومية. والقطاعان الأكثر احتياجاً للإنفاق هما التعليم والطرق بمقدار 4 نقاط مئوية لكل منهما، وتأتي الصحة في المرتبة الثانية بمقدار 3 نقاط ثم قطاع الكهرباء بمقدار نقطتين مئويتين والمياه بمقدار نقطة مئوية. أما الدول ذات الاقتصادات الناشئة، ذات الدخول الأكبر، فتحتاج زيادة في الإنفاق السنوي تقدر بنحو 4 في المائة من دخولها القومية. وإذا حولت هذه النقاط المئوية إلى تكلفة بالدولار فستصل إلى 500 مليار دولار للدول الأقل دخلاً و2100 مليار دولار للدول ذات الأسواق الناشئة.
إن هذه الأرقام كاشفة عن أن استمرار نهج تمويل التنمية المتبع، دون تغيير، لن يحقق الأهداف المعلنة وأن تطويراً عاجلاً وشاملاً أصبح ضرورياً. فالموازنات العامة للدول النامية، إلا قليلاً، منهكة ومحملة بأعباء ديون تضاعفت في السنوات الأخيرة. فمن سيتحمل تكلفة تمويل التنمية؟ هناك أربعة مسارات للتمويل وتعبئة الموارد:
الأول يتمثل في مراجعة جذرية شاملة لكفاءة الإنفاق العام وزيادة موارده من الضرائب والإيرادات السيادية. فكلما قلت كفاءة الإنفاق العام ازدادت الموارد المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية من الإنفاق، وتتنوع أشكال عدم الكفاءة من تضارب الأولويات وخسائر كيانات تابعة للدولة وتسرب وإهدار المال العام. كما يمكن تحقيق زيادات في الإيرادات الضريبية، تصل إلى 5 في المائة من الدخل القومي في الأجل المتوسط، باتباع استراتيجية لزيادة الإيرادات تعتمد على النمو الاقتصادي وحسن توصيف القاعدة الضريبية وتوازن العبء الضريبي واستخدام تكنولوجيا المعلومات والتوجه نحو محلية التنمية في المدن والمحافظات وتوطينها بتعبئة الموارد المحلية. وقد حققت دولة جورجيا نقلة نوعية تستحق الدراسة لزيادة إيراداتها الضريبية من خلال تيسير القوانين وتبسيط إجراءات التحصيل والتخلص من غابة معقدة من التشريعات البالية التي أكثرت من الرسوم والأعباء وقللت من الحصيلة واعتمدت نظاماً متكاملاً لتكنولوجيا المعلومات خفض من تكلفة التحصيل وحجم التهرب الضريبي ودعم الإفصاح والشفافية.
ثانياً، التزام الدول الأغنى بتعهداتها نحو تمويل التنمية بمساندة الدول الأفقر بمقدار 0.7 في المائة من دخولها القومية. فهناك 4 دول فقط من مجموع 29 دولة توفي بالتزاماتها السنوية بانتظام، ويصل مقدار المساعدات الإنمائية الحكومية حالياً إلى متوسط 145 مليار دولار، ويضيف وفاء كل الدول المتقدمة بالتزاماتها 230 مليار دولار سنوياً توجه للتنمية في الدول الأفقر والدول متوسطة الدخل. ورغم المطالب المتكررة في هذا الشأن لم تتحقق زيادات تذكر في هذا المسار، وإن كان لا ضرر هناك من استمرار المطالبة، فالضرر يكمن في انتظار ما قد لا يأتي.
ثالثاً، زيادة التمويل الدولي الخاص الموجه للتنمية. من أهم أشكال هذا التمويل الاستثمار الأجنبي المباشر، ونلاحظ من تقرير منظمة «الأنكتاد» أنه قد انخفض في رقمه الإجمالي بنحو 23 في المائة ليصل إلى 1430 مليار دولار، وتراجع في الدول المتقدمة بمقدار 37 في المائة، وانخفض في الدول ذات الأسواق الناشئة بمقدار 27 في المائة، ولكنه ثبت دون تغير في الأسواق النامية وبلغ 671 مليار دولار. وتستطيع الدول النامية بما في ذلك الدول العربية زيادة حصتها منه إذا حققت تحسناً في مناخ الاستثمار ومؤشرات التنافسية وإتاحة فرص استثمار مجدية بالمشروعات الخاصة المحلية والأجنبية مع تحجيم مزاحمة الاستثمار الحكومي لها وتعزيز فرص المشاركة وتقاسم العائد والمخاطرة.
وتجدر هنا الإشارة إلى أهمية إصلاح النظم الضريبية دولياً ومحلياً التي ترتب عليها أن تتكلف الدول النامية سنوياً ما يعادل 1.3 في المائة من دخولها القومية أو ما يعادل 200 مليار دولار سنوياً من جراء تحويل الشركات لأرباحها للمناطق ذات الدخل المنخفض وفقاً للمعمول به للقواعد الدولية للضرائب على الشركات. إن هذه الخسائر المبينة التي تلحق بالدول النامية والتي أعلنت عن أرقامها أخيراً السيدة كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي تتطلب سرعة تنفيذ مقترحات مجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي في هذا الصدد بما يحفظ مصالح الدول النامية ويقيم نظاماً ضريبياً أكثر عدلاً يتفادى مثالب النظام القائم الذي تخطاه الزمن وضيّع أموالاً على أصحاب الحق فيها.
رابعاً، إسهام القطاع الخاص المحلي في التنمية، إذ يتجاوز دور القطاع الخاص مجرد محاولة تجسير فجوة تمويل التنمية من خلال مدخراته وأدائه للضرائب المختلفة، فهو مساهم مباشر بها من خلال استثماراته ومشروعاته التي يعمل بها أغلب العاملين في القطاع الإنتاجي. وفي القطاع الخاص، في إطار من المنافسة، تتحقق مجالات تطوير الابتكارات وتنميتها. وقد أسهم تجمع شركات القطاع الخاص في اليابان المسمى «كيدانرن» في تطوير منهج عملي أطلقت عليه اسم «مجتمع 5.0» كدلالة على تطور المجتمع ونشاطه الاقتصادي بدأت من الاعتماد على الصيد، ثم الزراعة، ثم الصناعة، ثم المعلومات، وهي الآن في مرحلة الابتكار والإبداع اعتماداً على الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات. يعتمد هذا المنهج على توجه عملي براغماتي في علاج معضلات التنمية والعمل على التنوع وزيادة القيمة المضافة وإدراج الاستدامة في الأنشطة الرئيسية للشركات وليس كعمل خيري فقط يدرج في الأعمال الطوعية.
من الخطأ الظن أن تحقيق أهداف التنمية سيأتي على المنوال ذاته الدارج في إعداد موازنات افتقدت الاسترشاد بأولويات التنمية، واستنفدت بنود إنفاقها في استهلاك جارٍ، ولن يتحقق تمويل التنمية بالاكتفاء بالإنفاق العام فقط وإن تحققت زيادات في الإيرادات العامة. فبرامج التنمية المستدامة تتطلب استثماراً هائلاً في التنمية البشرية، وتستلزم استثماراً ضخماً في البنية الأساسية التقليدية، فضلاً عن بنية التحول للاقتصاد الرقمي، وتحتاج لاستثمار مكلف في نظم التوقي من المخاطر والصدمات بما في ذلك تطوير نظم الضمان الاجتماعي. ولا توجد سبيل منفردة لتمويل التنمية المستدامة تغني عن الأخرى، والدول الأقدر على تحقيق أهدافها الطموحة هي التي تستطيع تعبئة التمويل العام والخاص والمحلي والأجنبي معاً وتوجيهها بكفاءة وفاعلية مع إدراك كامل لأولوياتها.