أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

أحمد زكي ونظرية «الخيار الرصين»

في إحدى ليالي صيف عام 2001، دعيت بالصدفة لحضور عرض خاص لفيلم النجم احمد زكي "ايام السادات" مع مجموعة من النقاد والفنانين. ولما كنت من المغرمين بزكي، ولطالما رأيته نجما لا يقل بحال عن حجم أقرانه العالميين، فقد لبيت الدعوة مسرعا. استمتعت بالفيلم للغاية، لدرجة انني تخيلت السادات فعليا بشحمه ولحمه أمامي.. لكن جملة واحدة في الفيلم الطويل صدمتني واستوقفتني، كان ذلك حين قال زكي لميرفت أمين، التي قامت بدور جيهان السادات: "عارفة يا جيهان.. انا النهاردة اتخذت أهم قرار في حياتي.. قررت تعيين حسني مبارك نائبا لي". كانت الجملة فجة. فلا يمكن ان يعد السادات، صاحب قراري الحرب والسلام الحاسمين، تعيين مبارك أهم قرارات حياته قاطبة.
وبعد انتهاء العرض، صارحت صديقي الناقد، الذي دعاني للمشاهدة، برأيي.. فنظر إلي باسما، وكان قريبا من الراحل احمد زكي. وقال: "زكي انتقى الخيار الرصين.. وهذه الجملة أنقذت الفيلم مما لا يعلمه إلا الله". استفاض صديقي وشرح لي ان مبارك كان سيمثل أزمة، إذا تغاضى الفيلم عن ذكره، وخاصة ان صناع الفيلم لم يظهروا أحدا يؤدي شخصيته "تجنبا لأي مشاكل، إذا لم يرق للحاكم الأداء"، مما كان يمكن ان ينسف المشروع برمته؛ على حد قول صديقي.
سألته مجددا: "هل تعتقد ان مبارك مهتم أصلا بالسينما؟".. فأجاب: "لا اعتقد.. لكن حوله مئات المهتمين.. وكلهم يبحثون عن مصيبة لكي يقربوا انفسهم منه اكثر".
بعد عدة أشهر، قرأت الرواية التي صدرت حديثا بعنوان "عمارة يعقوبيان".. ثم جمعتني الصدفة ايضا بأحد كبار الضباط في الجهاز الرهيب الذي يرتجف قلب المصريين لمجرد سماع اسمه في ذلك الوقت؛ "أمن الدولة". كان الرجل صديقا للعائلة.. فتماديت في الحديث وسألته: "هل حقا تراقبوننا جميعا وتمارسون التعذيب في أقبية مقراتكم؟".. قهقه الرجل ولم يرد. وكان وجهه وعيناه وبسمته اقرب ما يكون للراحل عمر سليمان، الذي رأيت صوره للمرة الاولى كملايين المصريين بعد سنوات.. فلم أزد في السؤال مخافة ألا تشفع لي العلاقات العائلية.
بعد نحو خمسة اعوام من تلك القصة، كنت أطالع الجرائد صبيحة يوم شتوي في مقر عملي كطبيب بمستشفى الشرطة.. فوجئت بالعناوين الرئيسة تعلن القبض على المهندس خيرت الشاطر فيما عرف وقتها بقضية "ميليشيات الأزهر".
سألت صديقا ضابطا في أمن الدولة ايضا: "أوليس ذلك الشاطر هو نفسه صاحب قضية سلسبيل الشهيرة مع زميله حسن مالك عام 1992؟". اجابني صديقي ايجابا.. فعاودت السؤال كالأبله: "ألم يحاكم ويسجن ويعلن عن مصادرة كل أمواله؟".. فرد صديقي مكتفيا بابتسامة غامضة دون ان يضيف حرفا.
وبعد محاكمة الشاطر، أعلنت محكمة عسكرية سجنه لمدة سبع سنوات و"مصادرة جميع أملاكه".
بعد نحو عام من ثورة 25 يناير، التقيت مجددا بالضابط صديق الاسرة. كانت الاحوال قد تبدلت، فقد أحيل الى التقاعد بحكم السن، وتحولت انا الى الصحافة، وانتقلت البلاد الى قبضة المجلس العسكري بعد انكسار الشرطة، واقتحام المئات لمقرات الجهاز الحصين. سمحت لنفسي ان اسأله مجددا عن حقيقة قوة الجهاز وما يشاع حوله. وكانت جرأتي اكبر بعد ان زال اغلب الحاجز النفسي. رد الرجل بهدوء قائلا: "لا أنفي اننا كنا نتجاوز في كل ما ذكرت.. كنا نتنصت ونضرب ونفبرك.. لكن الحقيقة ان كل ذلك لا يتجاوز واحدا على مليون مما كان يشاع عنا.. كانت اقوى نقاط الجهاز فعليا فيما صنعناه من سمعة بمشاركة الكثيرين.. كانت تلك السمعة الرهيبة هي الجدار الأعظم الذي بنيناه حولنا.. لكن المصريين حبسوا أنفسهم داخله".
سقط فكي من هول ما أسمع.. وسألته غير مصدق: "أتعني ان اسطورة الجهاز كانت مبنية على ترهات رائجة؟"، هز رأسه قائلا: "نعم.. لو كنا بتلك القوة لما سقطت الشرطة في ساعات يوم 28 يناير 2011". سألته عن من يعنيهم بـ"الشركاء" في بناء تلك الأسطورة.. فقال ان ابرزهم قادة جماعة الاخوان. كدت ان أمسك بتلابيبه وأنا اقول: "كيف ذلك وانتم كنتم تسجنونهم وتصادرون أموالهم؟"، فرد الرجل مستنكرا كالمدفع: "أي أموال وأي سجن؟ كانوا معززين مكرمين.. وهم أمامك، أيبدو لك الشاطر على سبيل المثال مفلسا؟ انه ملياردير؛ رغم كونه أحد اكثر من زعمت الجماعة انه سجن وتعرض لانتهاكات.. وكل قياداتهم الأخرى يلعبون في السوق والسياسة رغم انهم رسميا جماعة محظورة. كانت هناك صفقات تجري، هم يروجون لبطشنا ونحن نتركهم يلعبون تحت السطح.. يستغلون الشائعات لابتزاز التعاطف، ونستغلها لبناء السمعة المخيفة وللترهيب".
رغم صدمتي من الحديث، إلا انني اكتشفت ان كل المصريين كانوا يعيشون تحت مظلة نظرية احمد زكي.. فكانوا يميلون دائما الى "الخيار الرصين". لا تفعل شيئا "ربما" يغضب النظام "لو" عرف به، كي تنجو وتعيش أيامك.
أضاع المصريون عمرا طويلا في الخوف من المجهول، فقط للبقاء مع "الخيار الرصين".