إميل أمين
كاتب مصري
TT

الحلم الأميركي والكابوس الاشتراكي

آخر ما كان يمكن للمرء أن يتوقعه، أو يخطر على قلب العارفين ببواطن الولايات المتحدة، أن يأتي اليوم الذي يشعر فيه الرأسماليون، ولا سيما المحافظين الجدد والقدامى على حد سواء، بالخوف من الاشتراكية والاشتراكيين الأميركيين، ومقدرات وصولهم إلى مقاعد الحكم في البلد المغرق في رأسماليته، الذي أشار إليه الرئيس ترمب الأيام الماضية بأنه لن يكون أبداً بلداً اشتراكياً.
خلال مؤتمر العمل السياسي المحافظ السنوي، الذي جرت وقائعه قرب واشنطن، كان ترمب يعلن أنه سيوقّع أمراً تنفيذياً يطالب فيه الجامعات والكليات في بلاده بدعم «حرية التعبير» في الحرم الجامعي، لئلا يحرمها من تمويل اتحادي، ويؤكد رفض إبدال «الحلم الأميركي» بـ«الكابوس الاشتراكي».
لماذا الجامعات الأميركية تحديداً؟ وهل هناك ما يقلق النخبة الأميركية الحاكمة بشكل أكثر تخصيصاً من شباب الأمة وتوجهاتهم السياسية في قادم الأيام؟
قبل الجواب، تنبغي الإشارة إلى أنه ليس سراً القول؛ إن ثقة الشارع الأميركي بأحزابه وجماعاته السياسية لم تعد عالية، وإن هناك حالة من عدم اليقين السياسي تجاه مقدرة الحزبين الكبيرين على قيادة البلاد إلى برّ الأمان. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي الذي فتح الطريق أمام ترمب للوصول إلى البيت الأبيض، ولا سيما أن الرجل لم تتلوث يداه من قبل بأعمال السياسة، وكذا الديمقراطية التي باتت تباع على الأرصفة وعند زوايا جماعات الضغط المتعددة الأشكال والأسماء.
في هذا السياق والنطاق السياسي الملتبس، بدا وكأن هناك «انقلاباً مفاهيمياً» عند نسبة عالية من الشباب، بدأت تتوجه صوب ما يعرف بالاشتراكية، التي تؤكد الطابع الديمقراطي لميولها السياسية.
لسنا هنا إذن في معرض الحديث عن شيوعية تاريخية بغيضة، تجاوزها الزمن والأحداث، بل عن اشتراكية تؤمن بإقامة حياة اقتصادية لا مركزية، وتعارض جميع الحركات السياسية الاستبدادية والتسلطية كالستالينية، وعندهم أن الانتخابات الديمقراطية النزيهة كفيلة بالانتقال من الرأسمالية التي سحقت ومحقت الإنسان، إلى النظام الاشتراكي الديمقراطي الأكثر عدالة.
هذه الأفكار بدرجة أو بأخرى، كانت مطاردة في خمسينات القرن الماضي وستيناته. وتجربة «المكارثية الأميركية» قائمة خلف الباب، تُذكر الأميركيين بالصراع الذي جرى في البلاد في تلك الآونة. وبات السؤال الآن؛ هل يعيد التاريخ نفسه؟
الأرقام أصدق إنباءً من التحليلات! إن جاز القول، وهي التي أزعجت المحافظين الأميركيين في المؤتمر الأخير، وقد جاء بها استطلاع للرأي، عبر معهد غالوب الأميركي الشهير، الذي أظهر أن 51 في المائة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة من الأميركيين باتوا يمتلكون رؤية إيجابية للاشتراكية... هل المخاوف جدية هذه المرة، ونحن على بعد 20 شهراً من الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي يبدو أن المرشح الاشتراكي بيرني ساندرز سيكون أحد فرسانها المتقدمين؟
يصف ساندرز نفسه بـ«الاشتراكي الديمقراطي»، ومع حالة الاهتراء التي أصابت النسيج المجتمعي الأميركي في الأعوام القليلة الفائتة، تبدو حظوظ الرجل متصاعدة، ولا سيما أنه يتبنى حملة تعيد لمّ الشمل الأميركي، وتعصب الجروحات التي تسببت بها قرارات سياسية ذات مسحة رأسمالية متطرفة، فهو صاحب رؤية العلاج الصحي للجميع، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى ما يسميه «أجراً يمكن العيش منه»، عطفاً على إيمانه العميق بضرورة مكافحة التغير المناخي. وبإجمالي المشهد، فإن ساندرز يسعى إلى حملة تركز على إحداث تحول في أميركا، وتشكيل حكومة قائمة على مبادئ العدالة الاقتصادية والاجتماعية والعرقية والبيئية.
بدا المحافظون والرأسماليون الأميركيون بالفعل مؤخراً منزعجين من تقدم ساندرز، فقد جمع الرجل نحو 4 ملايين دولار خلال 12 ساعة من إعلان عزمه خوض الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ليس هذا فحسب، بل بلغ عدد مشاهدات فيديو ساندرز بترشيح نفسه أكثر من 6 ملايين مشاهدة، وتلقى نحو 330 ألف تأييد ومباركة، وهو ثلث الرقم المستهدف لتحقيق «حملة شعبية تاريخية وغير مسبوقة».
وفي حال النظر إلى أن النسبة التي أشار إليها الاستطلاع المتقدم بين الشباب الأميركي والذين يعدون القاعدة الاجتماعية لساندرز، فإن مآلات الانتخابات الرئاسية المقبلة تبدو بالفعل مثيرة للترقب والتأمل، وبخاصة مع صعود سياسيين أميركيين شباب إلى مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، ومناداتهم بتوجهات اشتراكية اقتصادية، مثل رفع الضرائب وتقليص ثروات الأغنياء، أي نشوء وارتقاء جناح يساري أميركي، باتت تمثله اليوم عضو مجلس النواب السيدة ألكسندرا أوكاسيو، وفريق يدانيها في أفكارها.
يعنّ لنا أن نتساءل؛ هل المخاوف من أزمة اقتصادية طاحنة أخرى قادمة في الداخل الأميركي هي السبب الرئيسي وراء تلك الصحوة الاشتراكية الأميركية؟
قد تكون الأزمة المالية 2008 هي التي فتحت أعين الأميركيين على إعادة قراءة خطوط وحظوظ اقتصاد السوق الحر بالمرة، وليس سراً أن هناك إعادة قراءة تجري للأدبيات الاقتصادية لكارل ماركس في الداخل الأميركي على أيدي مفكرين وفلاسفة أميركيين معاصرين من المنظمة الديمقراطية الاشتراكية الأميركية، النتاج الحي للحزب الاشتراكي الأميركي منذ العام 1973.
وقد حدث ما يمكن أن نطلق عليه «ثغرة في الوعي الرأسمالي الأميركي» منذ عقد، تمثل في ظهور حركة «احتلوا وول ستريت»، بشعارها الشهير «نحن الـ99 في المائة» في إشارة لا تخطئها العين لخطيئة الرأسمالية الأميركية المميتة، لا العرضية، أي امتلاك واحد في المائة من سكان الإمبراطورية المنفلتة لـ99 في المائة من ثروات أميركا.
هل ستفلح صيحات المحافظين الجمهوريين، واتهاماتهم للديمقراطيين بانحرافهم نحو اليسار، في تغيير مسار الأحداث، واستخدام الاشتراكية فزاعة لدى عموم الأميركيين؟
الشاهد أن المقاربة الحدية التي يطرحها الجمهوريون، أي حتمية الخيار بين الحرية والاشتراكية، لم تعد تنطلي على شباب جيل الألفية الأميركية... ماذا عن هذا الجيل، وقدرته على تغيير مساقات أميركا التاريخية؟
إلى قراءة قادمة إن شاء الله...