د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

لقاء هانوي مرة أخرى

قبل 3 أسابيع كتبت في هذا المكان عن لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في هانوي؛ وكيف أن المكان حمل دلالات كثيرة للمتفاوضين، وربما أيضاً تحديد مسارات عملية التفاوض ذاتها. فهانوي هي عاصمة فيتنام الشمالية التي كانت رمزاً للمواجهة مع الإمبريالية الأميركية، وبالنسبة لواشنطن فإنها كانت رمزاً للتوسع الشيوعي في بلدان ديمقراطية أو تابعة للولايات المتحدة، وكفى.
ولكن الزمن مضى بعد صراع دام لعقد تقريباً من السنوات، سقط فيه ملايين الضحايا من الفيتناميين، وعشرات الألوف من الأميركيين، ومعهم تدمير الفيتنامين الشمالية والجنوبية، وفي القلب منهما العاصمتان هانوي وسانجون. وبعد أقل من عقدين فإن فيتنام دخلت مرحلة من النمو المتسارع، وإذا بها قلعة رأسمالية تماثل القلعة الصينية. لم يعد أحد يعرف من الذي انتصر في حرب فيتنام، الشيوعيون الذين أجبروا أميركا على الفرار، أم الرأسماليون الذين باتت فيتنام بعدهم، جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية. وأكثر من ذلك باتت المثال الذي يأتي له الأميركيون والكوريون في الشمال لكي يعيدوا القصة مرة أخرى بعد الحرب الكورية في مطلع خمسينات القرن الماضي، وبعد أن تلاسن رئيسا الولايات المتحدة، وكوريا الشمالية بالتهديدات والوعيد والتحرشات النووية، وإذا بهما في هانوي يعقدان اجتماعهما الثاني بعد الاجتماع الأول في سنغافورة.
للوهلة الأولى فإن اجتماع هانوي لم ينجح، وخرج الطرفان دون بيان مشترك يوضح الخطوات التي سوف يتخذانها لنزع الأسلحة النووية في كوريا الشمالية، وتراجعت الولايات المتحدة عن العقوبات التي تفرضها على بيونغ يانغ. ولكن ليس بمثل هذه الطريقة تقيم هذه المفاوضات المعقدة التي توجد فيها من جانب أسلحة نووية، ومعها ربما أسلحة أخرى للتدمير الشامل، وأدوات نقلها من صواريخ ووسائل أخرى. ومن جانب آخر، توجد العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية، ويشارك فيها المجتمع الدولي، التي هي عملية لا تقل تعقيداً عن نزع الأسلحة النووية، لأن تراجع الترتيبات القائمة عليها سوف تكون العودة لها مرة أخرى من الصعوبة بمكان. وبين الصعوبات والتعقيدات هنا وهناك، فإن هناك كثيراً من عدم الثقة بين الطرفين، تعززها الأوضاع الداخلية في كل بلد؛ وما يحتاجه كيم أون عندما يعود لبلاده أن يكون حاملاً معه ليس فقط رفع العقوبات، وإنما تحقيق حلم اللحاق بالدول المتقدمة، كما فعلت الصين وفيتنام. المؤكد أن كيم أون لا يريد لبلاده أن يطبق عليها النموذج الليبي الذي جرى فيه نزع السلاح النووي والكيماوي، وبعدها قامت طائرات حلف الأطلنطي بالإطاحة بحكمه وقتله شخصياً. دونالد ترمب من ناحيته كانت لديه مشكلاته الشخصية الكثيرة، فالولايات المتحدة لم تعد تلك الدولة التي يحترم فيها مجلس النواب حقيقة أن رئيس الدولة يجري مفاوضات حساسة وحرجة في عاصمة خارجية؛ فلم يكن هناك ما يحول من عقد جلسة استماع لمايكل كوهين، المحامي الشخصي لدونالد ترمب، الذي كان قد أدين في قضايا أخرى، وعلى أبواب صدور أحكام ضده بالسجن خلال الشهور المقبلة. ولكن مجلس النواب لم يكن يعقد جلسة لفضح محامٍ فاسد، وإنما كان يريدها جلسة لمحاكمة الرئيس الأميركي. وهكذا بينما كانت جلسات التفاوض تجري في هانوي، كانت جلسات مجلس النواب تجري في واشنطن، وقال فيها كوهين عن رئيس الدولة ما قال. كان هناك كثير من الدراما في جلسة الكونغرس، ورغم أن قصص علاقات ترمب مع فتيات «البورنو» لم تكن جديدة، فإن إشهار صور الشيكات التي وقّعها ترمب من أجل إسكاتهم أعطت قدراً غير قليل من الإثارة، ومادة لشبكات التلفزيون لكي تشهر الفتيات كثيراً من الخطيئة الجسدية. وبينما كان يجلس دونالد ترمب مع كيم أون يتحدثان في تفاصيل الأسلحة النووية، والعقوبات الاقتصادية، كان كوهين يتحدث عن الدور الذي لعبه ترمب في الحصول على وثائق «ويكيليكس» التي تضع «القاذورات» على هيلاري كلينتون أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية في 2016. ولم ينتهِ كوهين من شهادته إلا وكان قد أعطى الكونغرس قائمة بأسماء من يمكن استدعاؤهم للشهادة، فلا يزال العرض مستمراً.
ترمب كان يحتاج نصراً دبلوماسياً بشدة، ومع ذلك فإنه كان يعرف أنه قطع شوطاً طويلاً من «سنغافورة» إلى «هانوي»، فعندما كان في الأولى، حصل من كيم أون على التزام بنزع السلاح النووي، ورغم أنه كان يعلم أن عليه دفع ثمن هذا الالتزام من العقوبات الاقتصادية والالتزامات العسكرية في منطقة شرق آسيا، فإن ما أذاعه ترمب أن ذلك سيكون ممكناً عندما يتم نزع السلاح النووي الكوري تماماً، ويتيقن هو وحلفاؤه من أن كوريا الشمالية خالية من هذه السلاح ودون إمكانية للغش أو استئناف تطوير هذه الأسلحة مرة أخرى. كيم أون وجد معضلة كبرى في أنه إذا تخلص من الأسلحة النووية، فما الذي سوف يجبر الولايات المتحدة على رفع العقوبات، ومن ثم فإن موقفه في المفاوضات كان أنه على الولايات المتحدة أن ترفع كل العقوبات أولاً، وبعدها يأتي دور الأسلحة النووية. مثل هذا ليس جديداً على المفاوضات، حينما يطلب كلا الطرفين تحقيق مطالبه أولاً، قبل أن يقوم الطرف الآخر بالحصول على مطالبه؛ ولكنه من ناحية أخرى يجعل قائمة الأعمال على مائدة التفاوض أكثر وضوحاً من قبل، فهي الآن الأسلحة النووية والعقوبات، وكلاهما يمكن ترجمتهما إلى خطوات كثيرة ذات طبيعة فنية يمكن التحقق منها، بحيث إذا ما قام طرف بخطوة فإن الطرف الآخر يقوم بخطوة مماثلة، وهكذا يحصل كل طرف على بعض ما يريده، قبل أن يحصل على كل شيء.
المفاوضات هكذا لم تفشل فشلاً كاملاً، بل إنها كانت مجرد مرحلة من مراحل التفاوض يضع فيها كلا الطرفين مطالبهما القصوى، ثم بعد ذلك في مرحلة تالية يكون على الطرفين فيها أن يصعدا على السلم خطوة بعد الأخرى. وربما كان الموضوع الأصلي لم يحقق نجاحاً، ولكن هناك موضوعات أخرى تحققت فيها نجاحات. فالتوترات السابقة بين أميركا وكوريا الشمالية التي هدد فيها ترمب «بالنار والغضب»، وهدد فيها أون بضرب أميركا نووياً، لم يعد لها وجود. وإلى حد كبير هدأت أعصاب الصين واليابان، وسارت المفاوضات التجارية بين الصين وأميركا في اتجاه إيجابي، وارتفعت درجات الودّ بين كوريا الشمالية والجنوبية، وفوق كل ذلك فإن ترمب قدّم التزاماً بأن يكون السلام اقتصادياً على الطريقة الفيتنامية. وبشكل ما، فإن دبلوماسية ترمب في مزج التهديد والوعيد مع إغراءات اقتصادية هائلة، يبدو أنه «بروفة» قبل أن يجريها في بقية العالم، وتكون تجربتها الأخرى لقاء في الشرق الأوسط... الخلاصة أن مشاهد القصة الكورية لم تنتهِ بعد.