د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الرفاه الاقتصادي

يعد «الناتج القومي» أول وأهم مؤشر اقتصادي يلتفت إليه عند النظر لاقتصاد أي دولة، والناتج القومي هو عبارة عن مجموع المنتجات والخدمات التي تنتجها الدولة. وفي حالات المقارنة بين الدول يتم قسمة هذا الرقم على عدد سكان الدولة للحصول على الناتج القومي لكل فرد، كما يستخدم الاقتصاديون أيضا مؤشر معدل دخل الفرد للمقارنة بين الدول كمؤشر لقياس الحالة المعيشية للسكان. ولم تُستخدم هذه المؤشرات – حتى وقت قريب – لقياس الوضع الاقتصادي للدول فحسب، بل تعدته لقياس الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للدول، وهو ما بدأت كثير من دول العالم في تجنبه مؤخرا لأسباب كثيرة.
فالناتج القومي قد يوضح قوة اقتصاد الدول، إلا أنه لا يقيس مؤشرات أخرى مهمة للأفراد ومؤثرة في رفاههم المعيشي، مثل جودة التعليم والصحة والنقل ومعدل الأعمار ونظام التقاعد وغيرها من العوامل المؤثرة في الرفاه الاجتماعي. بل إن الناتج القومي في بعض الحالات قد يتعارض مع هذه العوامل، فعلى سبيل المثال، شهدت بريطانيا قبل قرنين من الزمان ثورة صناعية نهضت باقتصاد البلد وزادت من الناتج القومي بشكل فعال، ولو نُظر آنذاك إلى بريطانيا مقارنة بدول أخرى من هذه الناحية لتفوقت بريطانيا بشكل واضح، إلا أن ذات الثورة الصناعية أثرت بشكل سلبي على البيئة، وزاد التلوث في البلاد، وتسبب الدخان المنبعث من المصانع في وفاة الآلاف، حتى اضطرت بريطانيا بعد العام إلى فرض قيود على المصانع التي تسببت في انخفاض معدل الأعمار بشكل كبير. ولو قورنت جودة حياة الفرد في بريطانيا آنذاك بحياة مزارع في دولة آسيوية، لما كان الفارق كبيرا حتى مع الاختلاف الهائل في الناتج القومي لكلا الدولتين. وصحيح أن الناتج القومي ازداد بسبب الثورة الصناعية، إلا أن الثروة المكتسبة من الصناعة تقاسمتها نسبة قليلة من البريطانيين وهم ملاك المصانع، وهو ما يعني أن الفرد لم يتحصل إلا على جزء ضئيل من هذه الثروة ولم يتحصل على رفاه اجتماعي يتناسب مع هذا النمو الاقتصادي.
وحتى مع وضوح عدم الانعكاس المباشر للناتج القومي على جودة حياة الفرد، لا يزال الكثير من الجهات تقيس رفاه المواطنين بنصيبهم من الناتج القومي، ولعل أكبر سبب لذلك هو صعوبة قياس الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للأشخاص، بينما يسهل إيجاد الناتج القومي لكونه مجرد رقم متوفر للجميع. ولعل الصحة والتعليم أهم عند كثير من المواطنين من الناتج القومي، والحديث هنا عن جودة ومجانية هذين القطاعين. وعلى سبيل المثال، تفوقت بريطانيا على فرنسا في معدل الناتج القومي للفرد في السنوات القليلة الماضية، بينما تتفوق فرنسا وبشكل واضح في نظامها الصحي الذي يعد الأفضل على مستوى العالم، كما أن فرنسا تملك نظام تقاعد أفضل من نظيره في بريطانيا، فمعدل سن التقاعد في فرنسا عاما، بينما يرتفع هذا الرقم في بريطانيا إلى وهذا مجرد مثال على عدم مقدرة الناتج القومي لبيان جوانب الرفاه المعيشي المتعددة. إضافة إلى ذلك، فإن الناتج القومي لا يوضح أيضا العوامل التي تضر بالرفاه الاجتماعي، مثل عدم المساواة بين المواطنين في الحصول على فرص العمل وعدم التوزيع العادل للثروة.
والواقع أن النمو الاقتصادي لا جدوى منه إن لم ينعكس على تحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين، ودون هذا التحسن يبقى النمو الاقتصادي مجرد رقم يقرأه المواطن في النشرات الرسمية دون الإحساس به. وازدياد دخل الفرد مع زيادة معدل الانتحار في ذات الدولة يعني أن الناتج القومي لا ينعكس على الرفاه المعيشي، وبينما نجد الولايات المتحدة متفوقة في الكثير من الجوانب الاقتصادية، إلا أن الكثير من المواطنين في الدول الأوروبية (من الدول الأقل اقتصاديا من أميركا) يعيشون في رفاه اقتصادي سببته عوامل مثل مجانية الصحة والتعليم وتوفر وسائل النقل وتطور البنية التحتية.
ولأجل ذلك قامت الكثير من الدول بإنشاء جهات متخصصة لزيادة الرفاه المعيشي، فعلى سبيل المثال يقوم مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا بإصدار تقارير ربع سنوية، توضح المشاكل الاجتماعية لدى البريطانيين لأهداف منها التوعية بوجود هذه المشاكل، ومنها أيضا تحديد الأولويات التي يجب الإنفاق فيها لزيادة الرفاه المعيشي. كما قامت أيضا دول عربية في استحداث جهات وبرامج متخصصة في هذا الشأن، فقامت الإمارات العربية المتحدة بإنشاء وزارة سمتها «وزارة السعادة» للاعتناء بالرفاه المعيشي، وقامت المملكة العربية السعودية باستحداث برنامج جودة الحياة الذي يعنى بجوانب معيشية مثل الصحة والتعليم والنقل والترفيه والرياضة والثقافة والإسكان وغيرها من الجوانب التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر. وجود هذه الجهات يعتني تحديدا بربط النمو الاقتصادي بالرفاه المعيشي حتى يتمكن المواطن من الإحساس بهذا النمو الاقتصادي في حياته العامة، وهي النتيجة الأهم للنمو الاقتصادي.