حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

رسائل «وارسو»: لا كسرى بعد كسرى

تحولت قمة «الأمن والسلام في الشرق الأوسط» التي استضافتها وارسو، إلى أكبر منتدى سياسي دولي، حاكَمَ عبره ممثلون لنحو 70 دولة، الممارسات السياسية والأمنية الإيرانية المسؤولة عن زعزعة الاستقرار في بلدان المنطقة العربية، والمهددة للأمن في العالم. ورغم محاولة البلد المضيف بولندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، توسيع إطار البحث والنقاش بما يواجه أمن وسلام بلدان الشرق الأوسط، فإنّ رأي المشاركين وهواجسهم ذهبت للتركيز على الأخطار الملموسة التي تقدمت على ما عداها، وهو الأمر الذي عاد ولخصه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بقوله إنه لبحث الوضع في لبنان أو اليمن أو سوريا أو العراق... لا يمكن ذلك من دون التطرق إلى الدور الإيراني. المقصود بالتأكيد هو مسؤولية حكام طهران عن كل الخراب والقتل والاقتلاع والتغيير الديموغرافي في هذه البلدان، فضلاً عن ارتهان الوضع اللبناني وإدارته من خلال ميليشيا «حزب الله» أحد أبرز أجنحة الحرس الثوري الإيراني.
من جميع القارات التقوا ولبّوا الدعوة الأميركية وناقشوا ما رأوا أنه بات التحدي الأبرز للأمن والسلم الذي لم يعد جائزاً التعامي عنه، فالأخطار المميتة التي تسبب بها نهج حكام طهران في تصدير ثورتهم، وفي ابتداع أنماط من الإرهاب والإرهابيين، لم تعد تقتصر على البلدان العربية المنكوبة، فكثير من بلدان الأميركتين اللاتينية والجنوبية إلى البلدان الأوروبية كانت مسرحاً للتعديات التي تقف خلفها طهران، ما اضطر المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات رادعة، كانت آخرها العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد النظام الإيراني بعد انكشاف أعمال إجرامية متتالية في فرنسا وبلجيكا والدنمارك وسواها... هذا رغم أن الأوروبيين ما زالوا على تمسكهم بالاتفاق النووي مع إيران.
في هذا السياق وجّه مؤتمر وارسو الكثير من الرسائل التي سيكون من الصعب على نظام الملالي تجاهلها؛ وأولاها أن السلوك الإيراني بات تحت المجهر العالمي. كل أنماط الإرهاب، وافتعال الحروب الداخلية، والشراكة مع عصابات الجريمة المنظمة في تهريب المخدرات وترويجها كما في غسل الأموال، باتت معروفة. وأن على إيران أن تعود دولة طبيعية وإلا فإنها ستكون عرضة لمزيدٍ من العقوبات الأميركية والدولية، وأن كل الأطراف المشاركة في المؤتمر عبّرت عن المواقف نفسها بضرورة محاسبة حكام طهران على ممارساتهم التخريبية، مشددين على ضرورة توحيد الجهود والخطوات لإجبار إيران على تغيير سلوكها. وأكد المؤتمرون أن مؤتمر وارسو محطة أبرزت حجم الأخطار التي ستتم متابعتها في اجتماعات متخصصة بالرصد وخطط المواجهة، لأن طهران، خصوصاً في العقد الأخير، تجاوزت كل الخطوط الحمر كأنها تنحو لإعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية على حدِّ ما حذَّر من مخاطره مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي.
لم يعد العالم في عصر هذه الإمبراطوريات، فهذه الطموحات مدمِّرة بدايةً للشعوب الإيرانية التي تحملت وزر السياسات الوخيمة لحكام طهران، فبات أكثر من ثلاثين مليون إيراني تحت خط الفقر، واليوم على هذه الشعوب تحمل نتائج الرعونة السياسية واللا عقلانية للقيادة الإيرانية العاجزة عن رؤية العالم والاستفادة من دروسه، فبالأمس القريب سقطت الإمبراطورية السوفياتية رغم أنها كانت تمتلك الكثير من المواصفات التي لا تتوفر لحكام بلاد فارس، فلم يشفع للاتحاد السوفياتي امتلاكه عشرات آلاف الصواريخ النووية وفوقه تاريخ الانتصار في الحرب العالمية على النازية وتاريخ غزو الفضاء... فانهار كقصرٍ من رمال. اليوم وجّه مؤتمر وارسو رسالة حازمة إذا أحسن ملالي طهران القراءة، فأقل ما قاله المؤتمر إنه «لا كسرى بعد كسرى» على حدّ ما ردده الشيخ سيف بن زايد قبل أيام في معرض الإشارة إلى بعض جوانب السياسات الإيرانية ومخاطرها.
من هنا بالضبط تُفهم الحملة الإيرانية على المؤتمر، وهو أمم متحدة مصغرة، لذرّ الرماد في العيون والادّعاء أن المؤتمر كان للتطبيع بين الدول العربية والعدو الإسرائيلي انطلاقاً من المشاركة الإسرائيلية بشخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأن المؤتمر هدف إلى طمس القضية الفلسطينية، إلى آخر المعزوفة. لو كان الأمر هو التطبيع لما كان المطلوب الذهاب إلى وارسو، فأبواق الدوحة مثلاً الناطقة باسم طهران ونيابة عنها وتبرر الإمعان في الاتجار بالدم الفلسطيني، تعرف متانة العلاقات القطرية بإسرائيل، وأن التطبيع بين الدوحة وتل أبيب قديم ومنذ زمن بعيد، وإذا كان حقيقياً أن المناسبة هي للترويج لما يُعرف بـ«صفقة القرن»، فالأمر لا يتطلب بالتأكيد وجود هذا الحشد الدولي، فمواقف الدول العربية المؤثرة معروفة ولا مجال للاجتهادات، فالرياض مثلاً التي استقبلت على أعلى مستوى إبّان مؤتمر وارسو بالذات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كانت قد أعلنت بلسان الملك سلمان بن عبد العزيز التمسك بالمبادرة العربية للسلام وبالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
إن إسرائيل موجودة في كل المؤتمرات الدولية، وإذا كان المطلوب المقاطعة حيث تكون، فهذا يعني أن على العرب إدارة الظهر للأمم المتحدة قبل أي منبر دولي آخر، وهذه الذريعة، أيْ مشاركة إسرائيل، كانت الحجة التي تذرع بها وزير خارجية لبنان لإعلان مقاطعة المؤتمر المذكور، متباهياً بهذا الموقف في حضرة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، والأنكى أنه أعلن ذلك من باب أن سياسة لبنان هي التمسك بـ«النأي بالنفس»، كأن النأي يكون بإدارة الظهر لـ70 دولة لطالما حضنت لبنان وأمدّته بكل أشكال العون والدعم (!!) وكان آخرها يوم مؤتمر وارسو تسلم بيروت شحنة من الصواريخ الأميركية بقيمة 16 مليون دولار للطائرات التي أهداها الجيش الأميركي للبنان، وليس آخرها إعلان الموفد السعودي إلى بيروت قرار رفع الحظر عن سفر المواطنين السعوديين إلى لبنان، وما لهذا القرار من أثر عميق على وطن قادته السياسات القاصرة إلى العزلة والاختناق.