مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

شرخ في جدار الاتحاد الأوروبي

يظهر دليل آخر على خلاف أوروبي سياسي جديد قُيد في وثيقة بين فرنسا وإيطاليا، كان عبر سفيري البلدين، وذلك بعد أن استدعت فرنسا سفيرها في روما احتجاجاً على التدخل في شؤونها الداخلية من جانب وزير إيطالي، على الرغم من أهمية العلاقات بين الدولتين بوصفها استثنائية، أضف إلى ذلك الشراكات الاستراتيجية بشكل رئيس على السياسة الخارجية والأنشطة التجارية، إذ إن أهدافها غالباً ما تضمنت من الناحية الاقتصادية مؤسسات مالية ورؤساء منظمات دولية، وشركات تكنولوجية، هدفها فك الاحتكار الأميركي، ومسؤولين مشرفين على وزارتي الطاقة والمالية.
إن الخلافات الأخيرة التي تزيد من حدة التوتر منحتنا فهماً عميقاً لخطط البلدين التي تشير إلى الشؤون السياسية، عطفاً على قول نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني قبل 3 أسابيع من الآن: «إن فرنسا لا تريد تحقيق الهدوء في ليبيا، لأن مصالحها في قطاع الطاقة تتعارض مع مصالح إيطاليا»، مؤججاً بذلك حرباً كلامية بين روما وباريس.
أما بالنسبة للأسباب الداعية لذلك، فهي شأن اقتصادي سجله التاريخ على صفحاته منذ الاستعمار الفرنسي باستنزاف موارد أفريقيا، وبالدرجة نفسها أيّد سالفيني ما ذهب إليه الرئيس السياسي لـ«حركة خمس نجوم» لويجي دي مايو، وقال إن فرنسا تنتزع الثروات من أفريقيا بدلاً من مساعدة الدول على تطوير اقتصادها، وأتت ليبيا من خلف الستار لتأخذ نصيبها من الإعلام وتخبر إيطاليا عن حجم الفوضى والاستغلال الخارجي لمواردها التي أثرت سلباً على الثورة الشعبية المدعومة من حلف شمال الأطلسي في عام 2011 وأطاحت بحكم العقيد معمر القذافي.
رغم أن كمية الاتهامات المكشوفة مذهلة مسبقاً، فإن غاية طرحها مجدداً تدفع إلى محتوى مثير للاهتمام بفرض عقوبات على فرنسا، لأنها لم تقدم الفرص للبيئة السلبية التي خلّفتها بعد الاستعمار ودأبت على مواصلة نشر نقاط ضعف كامنة في النموذجين الأمني والاقتصادي في الدول التي كانت مستعمرة، وفي هذا الجانب قال دي مايو إن «الاتحاد الأوروبي ينبغي عليه فرض عقوبات على فرنسا وجميع الدول التي تحاكيها في إفقار أفريقيا وحمل الأفارقة على مغادرتها، لأن الأفارقة ينبغي أن يكونوا في أفريقيا، لا في قاع البحر المتوسط».
ووجّه المسؤول الإيطالي انتقاده الشديد لفرنسا واستغلالها للموارد الأفريقية، مضيفاً أنه لولا دول أفريقيا لكان الاقتصاد الفرنسي في المركز الخامس عشر بين اقتصادات العالم، لا بين أكبر 6 اقتصادات في العالم، وعلى إثر تلك الاتهامات التي أطلقها دي مايو بحق باريس استدعت وزارة الخارجية الفرنسية السفيرة تيريزا كاستالدو.
وإذ بدت فرنسا وكأنها تعيد التاريخ القديم منذ غزو الجزائر ومصادرة قمحها ومواردها، وهكذا تبقى فرنسا محركاً للأحداث، بل صانعة للأحداث وفي مقدمتها أيضاً، من هنا ظهرت تجديد أطروحة الاستعمار على أساس اقتصادي وثقافي وتنويري وتحديثي، فالثورة لا تزال عالقة في عقول الفرنسيين مهما انتقدت إيطاليا رفضها السماح للقوارب التي تنقذ المهاجرين بالرسو على سواحلها، ولكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عمل على تهدئة الأوضاع، مبيناً أهمية العلاقة من عدة نواحٍ تاريخية وثقافية واقتصادية.
على الرغم من أن وزارة الخارجية الفرنسية تعتبر هذا استفزازاً جديداً تتبعه إيطاليا، وسيبقى غير مقبول بين الدول المجاورة، والشركاء في قلب الاتحاد الأوروبي، وربما كان سبباً لقطع العلاقات بين البلدين بسبب قضايا الهجرة غير الشرعية والثقافة والتصعيد الإعلامي، وأسباب أخرى عميقة، فإنه يعبر عن تصدع في جغرافيا دول أوروبا، وبلا شك وتيرة هذا الصراع بسبب التصعيد الإعلامي الأخير من قبل الجانب الإيطالي تجاه باريس، وإشعال فتيل الحرب بين ماكرون وشعبه.
هذا الحدث هو بداية تآكل التحالف الأوروبي بنطاق أوسع وأعمق، وإن لم يرمم الاتحاد جدار الخلافات المتصدع، فإن احتمال زيادة الشرخ ونهاية الاتحاد ممكنة في المستقبل المنظور.