فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

«كريستوفر البعلبكي» بعد «لورانس العربي»

ربما استحضاراً وجدانياً من جانبه لأحد التاريخيين من بني قومه الضابط لورانس العرب (هكذا بات لقبه بعدما أدى أدواراً لمصلحة عرب ما قبل الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك)، أو ربما إعجاباً بالحراك الدبلوماسي لاثنين من السفراء العرب لدى لبنان، وهما السعودي وليد بخاري والإماراتي حمد الشامسي، كانت للسفير البريطاني كريستوفر رامبلينغ، الذي لم يمضِ على تعيينه أربعة أشهر، زيارة لافتة لمدينة بعلبك عاصمة منطقةٍ معقودٌ ولاء أكثرية أبنائها «حزب الله» و«حركة أمل».
كان السفير رامبلينغ قد غرّد بعد خمسة أسابيع من تسلمه المنصب مبتهجاً: «أنا وعائلتي مسرورون بالعودة إلى المنطقة التي نحب وإلى أرض فيروز والفتوش. ساعدوني أفهم بلدكم الرائع». هذا الانطباع عن لبنان ناشئ عن زيارة سابقة قام بها مع عائلته وعرف خلالها مناطق وبلدات، ساحلاً وسهلاً وجبلاً وأماكن وأطايب. وقد يكون سلَفُه هيوغو شورتر زاده إبهاجاً بحديثه عن لبنان ومتعة العمل فيه. ولأنه جبراني في جانب من مخزون ثقافته فإنه تعبيراً عن الابتهاج أضاف من أدبيات جبران خليل جبران عبارة «لا تنسوا أن الأرض تهتز لِمسِّ أقدامكم العارية وأن الرياح تحنّ إلى مداعبة شعوركم المرسَلة».
زيارة السفير رامبلينغ، أو فلنسمِّه تحبباً «رامبلينغ أوف بعلبك» أو «رامبلينغ البعلبكي» على نحو «لورانس أوف آرابيا» أو «لورانس العربي» الذي عزَّز دور هذا الضابط المغوار المخرج العالمي ديفيد لين بفيلم عن تاريخه وأدواره يحمل اسم «لورانس» عظَّم شأنه الزعيم السياسي تشرشل بعبارة «لن يظهر مثيل للورانس مهما كانت الحاجة ماسة إليه»، بدت -إذا جاز القول- استكشافية وليست فقط من أجْل أن يرى وأفراد عائلته على الطبيعة قلعة بعلبك ولا أن يضيف «الصفيحة البعلبكية» الشهيرة إلى الفتوش الذي أدرجه كصنف مستحَب في أُولى تغريداته اللبنانية. وفي هذا فإنها تختلف عن زيارات السفيريْن وليد بخاري وحمد الشامسي اللذيْن يتحركان إغاثياً للنازحين السوريين كما لو أنهما توأمان. ولا بد لاحظ السفير رامبلينغ، كما دوَّن على دفتر ملاحظات، ما الذي شاهده على طول الطريق من صُوَر ولافتات تعكس مدى الحضور القوي «حزب الله» و«حركة أمل» في بلدات هذا السهل البقاعي المترامي الأطراف الذي لطالما التصقت به سمعة زراعة الحشيشة، والذي هنالك مراكز التدريب العسكري «جيش دولة الحزب». وفي هذه المراكز درَّب الحزب مئات الشبان الذين قاتلوا إلى جانب قوات النظام البشَّاري، وقُتل منهم عشرات.
كانت زيارة «كريستوفر البعلبكي» محسوبة بدقة. يريد تسجيل موقف، إنما مع مراعاة بالغة الكياسة لواقع الحال في هذه المنطقة المحرومة بامتياز وبحيث إن درجة الولاء الشعبي لكلٍّ من «حزب الله» و«حركة أمل» أعلى بكثير من الاهتمام التنموي والاجتماعي والثقافي من جانب الطرفيْن، بل إنه أدنى بكثير مما خص به الحزب والحركة مناطقهما الجنوبية.
وعلى هذا الأساس فإن السفير كريستوفر رأى أن يقتصر برنامج زيارته البعلبكية على الاجتماع بأحد رجال الدين التنويريين، الشيخ عباس الجوهري، وبذلك لا يكون منسوب الحذر من جانب «حزب الله» و«حركة أمل» عالياً، في حال أنه زار على سبيل المثال الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام الأسبق «حزب الله». ومع أن الشيخ الجوهري يقف إلى يمين الشيخ صبحي في مخاصمة الزعامة الحالية للحزب، إلاّ أن نظرة السيد حسن نصر الله لهذه الزيارة تندرج ضمن التفهم، ولذا فإنها خلت من اعتراضات أو حتى تسجيل ملاحظات عليها.
ولكم كنتُ أتمنى من منطلق أنني لبناني وبعلبكي المنشأ سبق أن شغل إلى جانب عمله الصحافي رئاسة مجلس بلدي لقرية مسلوبة الاهتمام من الدولة، ثم بريطاني الجنسية الثانية، لو أن الزيارة أخذت مدى أكثر مما كانت عليه، وبحيث يطرق السفير بيوت ودواوين مرجعيات دينية وقوى سياسية قريبة الصلة بكلا الطرفيْن: «حزب الله» و«حركة أمل». ويسمع من هؤلاء كلاماً في شأن أحوال المنطقة وما يأمله الشعب البعلبكي من دول صديقة من بينها بريطانيا التي تتميز عن كثير من دول العالم بأنها لم ترتبط تاريخياً بلبنان بانتداب أو تدخُّل على نحو ما تفعله على سبيل المثال الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا.
وثمة فرص كثيرة لمثل هذا الدور خصوصاً أن معرفة السفير كريستوفر باللغة العربية وإحاطته بالأحوال العربية عموماً وبالذات في ضوء مهماته الدبلوماسية بين تركيا وليبيا والأردن إضافة إلى المركز في لندن، تساعد على تنشيط هذا الدور المأمول. وبذلك لا يعود الأمر يقتصر على نصائح وكلام عاطفي سبق أن سجله سلَفه هيوغو شورتر مثل قوله يوم 7 سبتمبر (أيلول) 2016 لمناسبة الفراغ الرئاسي وكان مضى على تعيينه سفيراً سنة: «على اللبنانيين أن يقرروا أن اتفاق الأطراف الخارجية لا يمكن، ويجب ألاَّ يكون ضرورياً لإيجاد حل للأزمة الرئاسية».
قد نجد مَن يرى أن أحوال بريطانيا الآن على الصعيديْن السياسي والحزبي ليست أفضل كثيراً مما هي عليه أحوال لبنان. ولكنهم في بريطانيا، مواطنين ومسؤولين، يمارسون الدور برؤية وطنية. وهذا ما نحتاج إليه في لبنان.
عسى ولعل يتسع مدى زيارات يقوم بها سفراء الدول الصديقة. كما عسى ينقل السفير كريستوفر إلى الحكومة البريطانية ما رآه وما سمعه خلال زيارته البعلبكية التي تعيد إلى الأذهان بعض ما كان يفعله رواد بريطانيون في المنطقة أمثال «لورانس العرب» الذي من خلال قراءة كتاب مذكراته «أعمدة الحكمة السبعة» يجد فيه الحاليون وبالذات السفراء، الكثير مما عليهم أن يفعلوه إلى جانب إعجابهم «الفتوش» والفيروزيات... وحديثاً «الصفيحة البعلبكية» في حصون «حزب الله» و«حركة أمل».