د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

تشاؤم دافوس

انتهى قبل أيام منتدى الاقتصاد العالمي الذي يقام سنوياً في مدينة «دافوس» السويسرية، وسط حضور رئاسي أقل من المتوقع، ونظرة تشاؤمية حول المستقبل الاقتصادي في 2019. والغريب أن توقعات هذا المؤتمر السنوي كثيراً ما تخطئ حول المستقبل الاقتصادي للسنة المعقود فيها، ولعل أشهر سنة حدث فيها ذلك كانت في عام 2007؛ حيث التقت نخبة الاقتصاديين في العالم في بداية تلكم السنة، متفائلين بسنة يستمر فيها النمو كما استمر للسنوات التي سبقته، إلا أن عام 2007 شهد نكسة اقتصادية عرفت بالأزمة المالية العالمية. وفي عام 2017، ساد التشاؤم حول المستقبل الاقتصادي في المؤتمر، تلاه نمو اقتصادي عالمي استمر لمدة 12 شهراً مستمرة، لأول مرة منذ الأزمة المالية.
وفي العام الماضي ساد التفاؤل بعد هذا النمو الاقتصادي، وبعد أن أعلن الرئيس الأميركي خفض الضرائب على الشركات في الولايات المتحدة، وبدا للمستثمرين وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذا الرجل الذي قضى عمره في أوساط الأعمال. إلا أن العام المنصرم لم يكن بهذا الإشراق؛ حيث اندلعت شرارة الحرب الاقتصادية بين أقوى اقتصادين في العالم، وكان الرجل الذي تفاءلوا به، هو ذاته من أشعل هذه الشرارة.
وفي هذا العام، ساد حذر مشوب بالتشاؤم في أوساط المؤتمر، لا سيما مع غياب رؤساء كبار الدول، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين.
غياب هؤلاء الرؤساء نفسه، هو أحد أسباب هذا التشاؤم حول مستقبل الاقتصاد العالمي؛ حيث انشغل الرئيس ترمب بالجدار الفاصل بين بلده والمكسيك، بعد أن أوقف حكومته لمدة تاريخية زادت على 35 يوماً، قبل أن يعلن استئناف العمل مؤقتاً قبل يومين. بينما انشغلت تيريزا ماي بفوضى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي لا يقلقها وحدها؛ بل سيتعدى تأثيره إلى الاتحاد الأوروبي وإلى العالم بأكمله؛ خاصة مع قرب الموعد النهائي للمفاوضات الذي يأتي بعد شهرين فقط! أما الرئيس الفرنسي فهو غارق في دوامة «السترات الصفراء» التي أجبرته على التراجع من خطة التقشف الاقتصادية، وأصبح همه الأول التركيز على السياسة الداخلية لبلاده. كذلك غاب رؤساء روسيا والصين عن هذه القمة، في إشارة لا تبدو طيبة على الأقل ظاهرياً. وتأتي أهمية حضور رؤساء الدول الكبرى من حقيقة أن نمو الاقتصاد العالمي لم يأتِ بجهود دولة واحدة؛ بل تحقق هذا النمو بفضل تكاتف دول العالم لاقتصاد عالمي متكامل، يقوم على سلاسل توريد عالمية ساهمت في خفض أسعار المواد الخام، وثورة معلوماتية تشارك فيها كثير من دول العالم، وساعدت على تنمية تجاوز العالم بفضلها نكسة الأزمة العالمية، في عشر سنوات لم تكن سهلة على الاقتصاد الدولي.
ولكن لا تبدو الدول اليوم مستعدة لهذا التكاتف، وسط موجة شعوبية اجتاحت العالم، أقنعت شعوباً كثيرة بأن في انتفاع غيرها ضرراً لها، ورسوم جمركية وأخرى انتقامية تتبادلها الدول. هذه القرارات لا تساعد العالم اقتصادياً بأي حال، وهو ما صرح به الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو (صاحب الميول الشعوبية أيضاً) والذي انتُخب للتو رئيساً لبلاده؛ حيث تحدث عن دراسة لمنظمة التجارة العالمية، أظهرت أن دول العالم إن زادت رسومها الجمركية لأعلى حد مسموح به، فإن النمو الاقتصادي العالمي سوف ينخفض للنصف. وهذا ما يؤكد أن النمو الاقتصادي في دولة ما متأثر لا محالة بالوضع الاقتصادي العالمي، وهو ما أوضحه الرئيس التنفيذي لبنك «دوتشه» الألماني، الذي ذكر أن 80 في المائة من عوائد أكبر 30 شركة ألمانية يأتي من خارج ألمانيا!
إن ما يشهده العالم اليوم من تطور اقتصادي، هو نتاج للتعاون الدولي في تحسين الاقتصاد العالمي، وليس ما يحاول التيار الشعوبي إقناع العالم به. وحين اجتمع كبار قادة العالم في «دافوس» 2009، كان همهم المشترك هو الخروج بالعالم من الأزمة الاقتصادية، هذه المعاناة المشتركة هي ما جعلت دول العالم تلتفت إلى كيفية التعاون فيما بينها للنهوض من كبوة الأزمة المالية، وهو ما يحتاجه العالم اليوم.
وفي حال إحجام قادة العالم عن التعاون فيما بينهم وحل الأزمات الاقتصادية، وانشغالهم بالأزمات الداخلية لبلدانهم، دون الالتفات بشكل جدي إلى التكامل الاقتصادي العالمي، فإن حالة عدم التيقن حول المستقبل الاقتصادي الدولي ستزيد لا محالة لدى المستثمرين... وهو ما سيقودهم أيضاً للإحجام عن الاستثمار، وبالتالي تباطؤ الاقتصاد.