علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

ما ليس طريفاً في تفسيرات الأحمدية اللاهورية والقاديانية

يجدد العقاد في المقال الثاني دفاعه عن الأحمدية اللاهورية، فيقول: «إننا قرأنا شيئاً من الكتب التي ألفها المجددون المسلمون في الهند ممن لا يقولون بنبوة القادياني ولا يقولون بأنه هو المسيح الموعود أو مهدي آخر الزمان، فلم نر في أقوالهم ما يمس عقائد الإسلام، وإن كانت لهم تفسيرات وتخريجات لا يقرها جميع الفقهاء، وشأنهم في التفسير والتخريج شأن الفرق الإسلامية التي تجتهد في الدين ولا تنقض أصلاً من أصوله، فهي في حظيرة الإسلام لا تضيق بها حرية البحث التي كفلتها للباحثين هذه الديانة السمحة في مختلف العصور والأقطار».
ولأن العقاد في مقاله الثاني عن القاديانية وعن الأحمدية اللاهورية مال موقفه من القاديانية، كما سبق أن أوضحت في المقال السابق، إلى موقف الملاين والمتساهل، فلقد شملها بالمدح والثناء الذي خص به الأحمدية اللاهورية في المقال الأول، لكن بعبارة ملتوية؛ فهو قد قال مباشرة بعد أن فرغ من الدفاع المُجدّد عن الأحمدية اللاهورية: «وما تتميز به هذه الجماعات المجدّدة أمران: أحدهما فرط النشاط في التبشير بالدعوة المحمدية وترجمة الكتب النافعة في هذا المسعى إلى اللغة الإنجليزية على الخصوص مع المثابرة على نشرها وترويجها في أميركا وأوروبا والجزر البريطانية، وإسناد هذا العمل إلى فئة من الشبان المثقفين المستعدين لرفع الاعتراض العقلي أو النقلي بالمعقولات التي يفهمها الغربيون، أو بالنصوص التي يتوسّع أولئك الشبان في تفسيرها على نحو كفيل بالإصغاء والإقناع. وقد يتصرفون في تفسيراتهم كما قدمنا، ولكنهم يقتربون بها من عقول المتعلمين والمتعلمات هناك، فلا يعرضون عنهم كما يعرضون عن الجامدين المتحجرين في فهم الكلمات والحروف.
والأمر الآخر طرائفهم العجيبة في تطبيق النصوص القرآنية على الأحوال الزمانية، لأنهم يعلمون أن أحوال الزمان لا تخرج على مدلول تلك النصوص، إذا اهتدى ذو البصيرة إلى فهمها وحسن تطبيقها، وما دام القرآن كتاباً باقياً لا يختص به عصر دون عصر ولا قبيل دون قبيل، فهو يحتوي في مضامينه كل ما يشغل المؤمنين به في العصور الحديثة، كما احتوى في مضامينه كل ما يشغل المؤمنين به منذ نزوله في عصر النبي عليه السلام».
العبارة الملتوية هي استعماله لتعبير «الجماعات المجددة»، فبحسب تسلسل فقرات المقال قد يظن قارئ المقال إن المقصود بهذا التعبير هم «المجددون المسلمون في الهند ممن لا يقولون بنبوة القادياني ولا يقولون بأنه هو المسيح الموعود أو مهدي آخر الزمان»، أي الأحمدية اللاهورية، لكنه في الحقيقة كان يعني بها هذه الجماعة، ومعها الجماعة الأم، الجماعة القاديانية. وبرهاني على ذلك أن الميزة الأولى عنده، التي كان قصرها في مقاله الأول على الأحمدية اللاهورية، يشترك القاديانيون فيها معهم، وأن الميزة الثانية عنده أتى بمثال لها مما قاله وكتبه مولاي محمد علي مؤسس الأحمدية اللاهورية، وميرزا غلام أحمد مؤسس الدعوة القاديانية.
أما لماذا في المقال الأول قصر الميزة الأولى عنده على الأحمدية اللاهورية مع علمه بأن القاديانيين يشتركون فيها معهم؛ فهذا يعود إلى أنه في مفتتح هذا المقال قد أدان القاديانية بعبارات دينية لا لبس فيها ولا تردد. وهذا ما لا يتسق مع تزكيتهم بذكر تلك الميزة عنده التي يتصفون بها ويشتركون فيها مع الأحمدية اللاهورية.
لكن مع تراجعه عن موقفه الأول من ميرزا غلام أحمد ومن أتباعه القاديانيين إلى موقف قلت عنه في المقال السابق إنه غير حاسم ويجمع ما بين التساهل والنصح، بتأثير من الدعاية الأحمدية اللاهورية التي تلقاها بعد كتابته المقال الأول، أدرج القاديانيين في حمل تينك الميزتين اللتين ذكرهما بأسلوب ملفوف، تلافى أن ينص فيه على اسم القاديانية في مطلع الفقرة، لكيلا يكون تراجعه واضحاً وبارزاً لقارئ مقالاته في ذلك الوقت.
للنظر في مثال الميزة الثانية عنده، وهل هو فعلاً طريف عجيب أم لا؟
يقول العقاد: «وهذا مثل من أمثلة كثيرة من طرائف هذه التطبيقات العصرية التي ينشرونها باللغة الإنجليزية، وهو رسالة عنوانها (تسليم أوروبا وأميركا)، أي تحويلهم إلى عقيدة الإسلام، لمؤلفها السيد محمد علي مترجم القرآن إلى الإنجليزية، ومؤلف الرسالة التي لخصناها عن النظام العالمي الجديد. فالسيد محمد يستشهد في صدر هذه الرسالة بكلمة للكاتب المشهور برنارد شو في (الزواج) يتنبأ فيها بأن الإمبراطورية البريطانية كلها ستدين بديانة إسلامية منقحة قبل نهاية القرن العشرين».
وللتوضيح، فإن كلمة «تسليم» باللغة الأردية لا تعني بالضبط ما شرحه بها العقاد، وهو تحويل أوروبا وأميركا إلى عقيدة الإسلام، فهذا الشرح يُعبّر عنه بكلمة لم تكن مستخدمة في زمن العقاد، وهي كلمة «أسلمة»، وإنما تعني كلمة «تسليم» باللغة الأردية القبول بالإسلام. فأوروبا وأميركا بحسب عنوان تلك الرسالة لديهما قبول بالإسلام، ولا تحتاجان إلى سعي إلى أسلمتهما! وكلمة شكسبير التي استهلّ بها مولاي محمد علي رسالته أو كتابه من إمارات ودلائل قبول أوروبا وأميركا بالإسلام!
وينقل العقاد عنه قوله في تلك الرسالة أو ذلك الكتاب: «إن هذه النبوة قديمة في القرآن والتوراة، ولكن الذين يقرأون الكتب السماوية لا يفطنون لمعانيها ولا يفسرونها على وفاق مدلولها. فإن ظهور المهدي أو المسيح بين المسلمين مقرون بظهور المسيح الدجال، وسيادة بعض الأمم التي سُمّيت يأجوج ومأجوج! والقرآن الكريم يقول عن يأجوج ومأجوج إنهم سينطلقون في اليوم الموعود... وقد ذكرتهم التوراة في سفر حزقيال، حيث جاء فيه: يا ابن آدم اجعل وجهك على يأجوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك وتنبأ عليه، وقل: هكذا قال السيد الرب. ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس ماشك وتوبال... إلخ».
ثم يسأل العقاد قارئه: «هل يدري من هم يأجوج ومأجوج هؤلاء في رأي السيد محمد علي ورأي القادياني من قبله؟».
يجيب قارئه بقوله: «إنهم الروس والإنجليز، أو السلاف والتيوتون في الشمال، ومصداق ذلك أن الماشك قريبة من الموسكو، وأن الروش قريبة من الروس، وأن ميشك وتوبال نهران في روسيا تنسب إليهما موسكو وتوبلسك العاصمتان المعروفتان الآن، وأن الروس والإنجليز معاً قد جمعوا شعوب الأرض للتغلّب على ملك الدنيا، وسينقلب بعضهم على بعض ويموج بعضهم في بعض، قبل أن يجمعهم داعي السماء إلى كلمة الحق والسلام».
يعلق العقاد على هذا التلفيق والتزييف العصري بالقول: «وهذا مَثَل من أمثلة التفسيرات والتطبيقات التي قلنا إنهم يترخصون فيها ويمتدون بها إلى حوادث الزمان الحاضر وما يليه، ويعتقدون أنها وما سيعقبها من الحوادث العالمية مكنونة في آيات الكتب السماوية تنتظر مَن فتح الله عليه بفهمها وإدراك مغازيها، فيتولى تبصير الأمم وما أنذرتهم به السماء وما ساقتهم إليه البشائر، وهم لا يفقهون».
وليوقفنا العقاد على معنى الفتح أو الإلهام، وللتفرقة بين الإلهام الفني والإلهام الديني يستشهد ببضعة سطور مما جاء في كتاب ميرزا غلام أحمد «تعاليم الإسلام»، الذي يقول إن موضوعه حل المشكلات الدينية من وجهة النظر الإسلامية.
يعود العقاد ليس للدفاع عن الأحمدية اللاهورية فقط، وإنما هذه المرة للدفاع عنها وعن القاديانية، فيقول: «وبعد، فإن الأمر الجدير بالعناية من حركة هؤلاء الدعاة أنهم يذيعون محاسن الإسلام ويجتهدون في نشره وتفسير الاعتراضات الغربية التي تتجه إليه، وفي هذه الحركة نفع مشكور، وإن لم تبلغ مرماها المقصود من (تسليم الأوروبيين والأميركيين)، لأنها تزيل الشبهات، وتدحض الأكاذيب، وتقرب بين الشعوب، وترفع المسلمين في أنظار الأمم التي كانت تظن بهم الظنون. أما التفسيرات التي ذكرنا آنفاً مثلاً من أمثلتها، فلا ضير فيها ما دامت تصون الإيمان ولا تفسد العقل بما يناقض التفكير المستقيم».
ويختتم مقاله بمعاودة النصح للقاديانيين، فيقول لهم: «ونعود فنقول إن الغيورين على الدعوات المجددة على اختلافها يخسرون بالغلو في تعظيم أئمتهم، ويكسبون لعقائدهم ولأولئك كلما وقفوا على حد الاعتدال».
لم أقرأ كتاب مولاي محمد علي «تسليم أوروبا وأميركا»، لأنه لم يترجم إلى العربية بعد، لكن من خلال ما تقدَّم من كلام العقاد عنه، فإنه في مرماه مشابه لكتاب «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، ففي هذا الكتاب زعم مولاي محمد أن القرآن يطلق على الشعوب الأوروبية اسم يأجوج ومأجوج، وأن أول سورة الكهف تحدثت عن نهاية المسيحية.
إن ما لم يتفطّن العقاد له أن عبارة «تسليم أوروبا وأميركا» الأردية والتفسيرات المتعلقة بيأجوج ومأجوج التي قال بها مولاي محمد علي وميرزا غلام أحمد لم تكن مجرد طرائف عجيبة في تطبيق النصوص القرآنية على أحوال زمانية راهنة، إنما سيقت لخدمة التزوير بأن ميرزا غلام أحمد هو المهدي المعهود والمسيح المزعوم. والكلام الذي نقله العقاد عن مولاي محمد علي يتناقض مع ما نفاه عن الأحمدية اللاهورية بأنهم لا يقولون بأن ميرزا غلام أحمد هو المسيح الموعود ومهدي آخر الزمان. وهذه الترهات والتخاريف أعلاه على غير ما يقول العقاد، فهي تنتهك الإيمان الديني وتعبث به وتغتال العقل وتنحي التفكير العقلي والتاريخي والعلمي، السليم والمستقيم. وللحديث بقية.