أحمد محمود عجاج
TT

«بريكست» وإشكالية الخروج: البرلمان في مواجهة الشعب!

عندما قرر البريطانيون في استفتاء شعبي منذ عامين الخروج من الاتحاد الأوروبي كان اعتقادهم أن المسألة لن تتعدى شهوراً، وتصبح بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، متحررة من القيود، وتتسابق دول العالم لعقد شراكات تجارية معهم! لم يتحقق شيء وبقيت بريطانيا: لا قادرة على البقاء ولا على الخروج؟
السؤال: هل السبب هو إدارة رئيسة الوزراء تيريزا ماي أم تضارب الإرادة الشعبية (الاستفتاء الشعبي) مع الإرادة التمثيلية (البرلمان)؟ ما الحل؟ هل تتغلب إرادة البرلمان على إرادة الشعب؟
إن الأداء التفاوضي لرئيسة الوزراء له، بلا شك، دور كبير في الفشل، وللعقدة الدستورية المتمثلة بتعارض إرادة الشعب مع النظام التمثيلي الديمقراطي دور مهم أيضاً! إن إرادة الشعب البريطاني بالخروج كانت واضحة، لكن كيفية الخروج لم تكن، فوقع الخلاف بين الحكومة البريطانية والبرلمان. تتأسس الديمقراطية التمثيلية على مبدأ سيادة البرلمان باعتباره الممثل الحقيقي لإرادة الشعب؛ هذا يعني أن نواب البرلمان هم من يعرفون مصالح الناخبين، ويجهدون لتحقيقها. لعل أفضل من عبر عن هذا النظام التمثيلي، الفيلسوف والبرلماني البريطاني، إدمون بيرك بقوله: «من سعادة وفخر نائب الأمة أن يكون قريباً من ناخبيه، ومن واجبه أن يولي رغباتهم مكانة خاصة... وأن يقدم مصلحتهم على مصلحته؛ ويجب ألا يتخلى أبداً عن رأيه وضميره المتقد، في سبيل إرضائهم، أو إرضاء أي إنسان، أو طائفة... وإذا ما تخلى عنه واستبدله برأي (ناخبيه)، فليس هذا في مصلحتهم بل خيانة لهم». هذا الرأي يجسد صميم الديمقراطية التمثيلية، لأن النائب وكيل عن الناس يرعى مصالحهم بفضل معرفته وخبرته، وبالتالي فإن تراجعه عما يعتقده صواباً يمثل خيانةً لدوره، وانقضاضاً على النظام البرلماني الذي يمثل إرادة الناس.
وقد عبرت رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر عن هذا التناقض عندما قالت إن الاستفتاء أقل رتبة ومكانة من الديمقراطية التمثيلية؛ واستشهدت باللورد أتلي الذي وصف الاستفتاء الشعبي بأنه «أداة بيد المستبدين وشعار يرفعه الغوغائيون».
هناك كثيرون يرون أن قرار الاستفتاء الذي أقرته حكومة المحافظين السابقة كان قراراً سياسياً وقانونياً خاطئاً، لأنه أولاً تجاوز البرلمان، وثانياً أدخل الشعب في مسألة حساسة تخص البرلمان! فمشكلة الخروج من الاتحاد الأوروبي لم تكن أبداً مشكلة بريطانية عامة بل مشكلة حزب المحافظين الذي وجد زعيمه ديفيد كاميرون، مثل سابقيه، أنه مضطر لإسكات هذه الفئة من نواب الحزب الرافضين للاتحاد الأوروبي وقرر تهميشهم بالرجوع إلى الشعب لقناعته أن الاستفتاء سيكون لصالحه. وبهذا تخلص كاميرون من مشكلة حزبية، فحولها، عن غير قصد، إلى مشكلة وطنية بامتياز.
وعلى هذا النهج الخاطئ سارت رئيسة الوزراء تيريزا ماي لأنها قررت إرضاء نوابها المتشددين المنادين بالخروج التام ولو على حساب مصلحة البلاد! فأعلنت في خطابها الشهير «لانكستر هاوس» أنها تلتزم قرار الشعب وهو الخروج من الاتحاد الأوروبي مهما كلف الأمر، وقالت مقولتها الشهيرة، رداً على الذين قالوا إن الخروج ليس بالأمر السهل، إن «الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق أفضل من الخروج باتفاق سيئ»! المفارقة أن رئيسة الوزراء من المؤيدين للبقاء، ومخضرمة سياسياً، وتدرك أن الاستفتاء الشعبي، كما تبين لاحقاً، لم يكن مضبوطاً بإجراءات دستورية، ولا محمياً بقدر كاف؛ ومع ذلك مالت بعد ظهور نتيجة الاستفتاء للفريق المتشدد في حزبها دونما اعتبار للمخاطر الدستورية والسياسية.
كان من المفترض أن تحدد حكومة كاميرون في قانون الاستفتاء نسبة معينة للفوز لا تقل 60 في المائة لا بد منها لكي تكون نتيجة الاستفتاء حاسمة ومانعة للجدل؛ وأن تتشدد كذلك في مراقبة تمويل الحملات الدعائية في الاستفتاء، ومتابعة صحة المعلومات المقدمة للناخب، وأن تمنع التدخلات الخارجية التي تبين لاحقاً أن لروسيا دوراً فيها. ولكون نسبة الفوز في الاستفتاء ضئيلة جدا (3 في المائة) كان متوجباً على رئيسة الحكومة تيريزا ماي مراعاة الفريق الخاسر لتقارب النتائج، ونسج مسار توافقي قدر ما أمكن لا سيما أن الفريق الفائز أطلق، في الاستفتاء، دعايات غير صحيحة وأعطى معلومات مغلوطة كان لها أثر على توجهات الناخب. لكن رئيسة الوزراء اعتمدت حلاً خلافياً وضيّقت بذلك خياراتها!
وقد أهملت رئيسة الوزراء متذرعة أن الشعب فوضها، ولا تحتاج لموافقة من البرلمان حول كيفية الخروج، لأن إرادة الشعب لها أسبقية على إرادة البرلمان! بهذا المنطق دفعت سيدة من رجال الأعمال لرفع دعوى تطعن في زعمها أنها لا تحتاج لموافقة البرلمان! وقررت المحكمة العليا بعد النظر في الدعوى أن الحكومة مخطئة ويتوجب عليها أن تأخذ رأي البرلمان، ولا يحق لها تجاوزه وأن للاستفتاء صفة استشارية وليس ملزماً قانونياً لأنه يتعارض مع مبدأ السيادة البرلمانية ومع الديمقراطية التمثيلية، وأن قانون الاستفتاء الذي وضعته الحكومة لم يتضمن أي نص يُبطل سيادة البرلمان! بقرار المحكمة أصبحت الحكومة مجبرة قانونياً على العودة للبرلمان للمصادقة على أي اتفاق تعقده مع الاتحاد الأوروبي؛ بذلك سقطت استراتيجية الحكومة بعقد اتفاق مباشر مع أوروبا، وتحولت مهمتها إلى مهمة مستحيلة: الخروج بلا اتفاق أو إقناع البرلمان أو إقناع الشعب!
أمام هذه الخيارات الثلاثة المتناقضة تدرك الحكومة أن الخيار الأول شبه مستحيل، وأن الخيارين المتبقين هما خيار البرلمان أو خيار الشعب! إذا ما قررت الحكومة الانصياع للبرلمان فستنتصر الإرادة الديمقراطية البرلمانية، وإذا ما لجأت إلى الشعب فستحتاج لإرادة البرلمان لإصدار قانون استفتاء جديد!