د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

ثماني سنوات من المدّ والجزر

غداً تحيي تونس ذكرى مرور ثمانية أعوام على حدث الثورة التونسية التي اندلعت في تاريخ 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وكما نعلم، فإن مثل هذه المواعيد عادة ما تكون، شئنا ذلك أم أبينا، لحظة تقييم الحصاد والمراجعة ورصد المنجز وتعداد الإخفاقات.
ولكل ذكرى ظروفها التي تحدد طابع التقويم والمراجعة والنقد. وأغلب الظن أن الذكرى الثامنة مشفوعة بملابسات تذكي الانتقاد بشكل يكاد يحجب حتى ما تم تحقيقه وإن كان مهماً.
وكما جرت عليه العادة خلال سنوات ما بعد الثورة، فقد عاد الجدل حول التاريخ الفعلي للثورة، حيث انطلقت احتجاجات تُذكر بأن المناطق المحرومة من التنمية، التي شهدت انطلاق الشرارة الأولى للثورة عندما قام الشاب محمد بوعزيزي بحرق نفسه، لم يتغير حالها وظل واقعها الاقتصادي على إكراهاته التي ارتفعت حدتها. لذلك رفع المحتجون شعارات مناهضة للحكومة.
الواضح في تونس اليوم أن الاحتقان الشعبي قائم الذات. وفي الحقيقة مبررات هذا الاحتقان وأسبابه كثيرة، وهي تفسر إلى حد كبير خلفية الاحتجاجات؛ فالدينار التونسي في انهيار متواصل والقدرة الشرائية شهدت تراجعاً، ومطالب الموظفين بالترفيع في الأجور دون صدى إيجابي من الحكومة.
كما لا ننسى الأزمة العاصفة بين أساتذة التعليم الثانوي والحكومة، ومن مظاهرها المقلقة تربوياً وشعبياً امتناع الأساتذة عن إجراء امتحانات الفروض التأليفية ورد الحكومة على ذلك بشطب الثلاثي الأول وعدم اعتباره.
المشكلة الكبرى أيضاً تتمثل في أن هذه الذكرى تتزامن مع تأزم العلاقة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل الذي أعلن قبل أسابيع أن يوم الخميس 17 يناير يوم إضراب عام بسبب تعنت الحكومة إزاء زيادة الأجور، وخاصة رفضهم للتوجهات الاقتصادية الحالية للحكومة واعتبارها خضوعاً لإملاءات صندوق النقد الدولي ومطالبه المجحفة في الدعوة إلى تسريح أكثر ما يمكن من موظفي القطاع العام وخصخصة الشركات العمومية التي تثقل مصاريفها كاهل ميزانية الدولة. كذلك فإن عدم الوصول إلى تسوية بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل يعني عدم قدرة الحكومة على إيجاد الحلول، إذ السياسة ليست فعلاً صلباً، وقدرة السائس تكمن في إيجاد الحلول وإنقاذ ما يجب إنقاذه. فليس من مصلحة أي طرف إضراباً عاماً، بما يعنيه من تكلفة مادية وخسائر من المفروض أن الدولة في غنى عنها ولا تقوى على تحملها.
ومما يزيد من حدة التأزم أن الخلاف ليس اقتصادياً فقط في تونس اليوم، بل هو أيضا سياسي، إذ يهيمن الانشقاق، فنجد فريقاً مع الحكومة وآخر ضدها، وهو انشقاق لا يخلو من أسباب شخصية ذاتية ويفتقد إلى الوعي بالوضع الاقتصادي للبلاد.
من جهة أخرى، نشير إلى أنه في صورة عدم الوصول إلى قاعدة دنيا من الحلول للتفاوض بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل وحدوث الإضراب بعد غد، فإن ذلك سيكون تأكيداً على مزيد من تعمق الأزمة. والمشكلة الأكبر أن الحلول باتت صعبة وأن لكل طرف نصيباً من الصواب في موقفه؛ فالحكومة لا تستطيع مواصلة تحمل الثقل المادي للوظيفة العموميّة وأيضاً للشغالين الحق في الترفيع في الأجور، بسبب تدهور قدرتهم الشرائية. وللمناطق المحرومة كل الحق في الاحتجاج، لأنها تعاني من الإحباط، وتشعر أن الثورة التي كانت سبباً في إشعال شرارتها لم تكسب منها شيئاً.
مشكلة النخب السياسية التي تواترت على الحكم منذ تاريخ الثورة إلى اليوم أنها لم تدرك جيداً الأسباب الحقيقية للثورة التونسية، التي هي أسباب اقتصادية بالأساس. لقد فاتهم أن الذي أحرق نفسه هو شاب فقير عاطل عن العمل وليس مثقفاً ضاق به الواقع الحرياتي. وفاتهم أكثر أن لا حل اليوم للنهوض اقتصادياً إلا الاستثمار وتشجيعه والتمتع بالقدرة على جذب رؤوس الأموال الأجنبية وتشجيع أصحاب رؤوس الأموال التونسيين وطمأنتهم للانخراط في العجلة الاقتصادية.
لذلك فإن المعركة في الأساس يجب أن تكون اقتصادية وليست سياسية وحول مواضيع شخصية ذاتية، خصوصاً أن تونس ستعرف في أواخر هذه السنة الجديدة حدثاً مهماً، يتمثل في الانتخابات التشريعية والرئاسيّة، التي إذا تواصل الواقع الاقتصادي على علاته وإكراهاته فإن العزوف عن المشاركة في الانتخابات سيبلغ درجة سيئة ومفجعة جداً وسيكون ذلك رسالة سلبية للعالم.
طبعاً في مقابل الإخفاقات الاقتصادية فإن تونس خلال السنوات الثماني الأخيرة نجحت بفضل جهود المجتمع المدني في قطع خطوات مهمة في مجال الحقوق الفردية. ولكن المشاكل الاقتصادية كانت ضاغطة على المجتمع التونسي بشكل جعل الاهتمام والاحتفاء بالمنجز الحرياتي متواضعاً، لأن القلق الاقتصادي هيمن على النّاس. وهي مسألة تؤكد لنا أهمية الاقتصاد وتأثيره في مجالات الأبعاد الاجتماعية كافة. فالمجتمع يحتاج أولاً إلى الاستقرار الاقتصادي الذي يتحقق بدوره بالاستثمار، بما يعنيه من فرص للعمل وللإنتاج وفتح مجالات تراكم الثروة.