ربما كانت الفرصة الأخيرة للشعب السوري المغلوب على أمره، الذي لا يزال يدفع الثمن باهظاً إزاء تبلّد المجتمع الدولي، أن تسعى المعارضة السياسية في الخارج، مدعومة بالإنجازات على الأرض، إلى إغراء المناخ السياسي الدولي بأنها «البديل» المؤهل لقيادة البلاد، بعد أن اكتسب «النظام الأسدي»، ويا للأسف، شرعية الخيار الأسوأ في دوائر كثيرة الآن تتحدث عن قلقها من رحيله، في سابقة سياسية ستكون لها آثارها في المنطقة؛ فالاحتفاظ بشرعية نظام نكّل بشعبه وقتل منهم ما يقترب من حدود المائة ألف، فصل جديد في طبيعة علاقة الدولة القُطرية بالقوى الدولية، عدا أنه، وعلى مرأى ومسمع الجميع، اجترّ «لبنان» عبر حليفه ميليشيا «حزب الله» إلى تفكيك منطق بنية الدولة اللبنانية، عبر دخول مكوّن سياسي عسكري كـ«حزب الله» للقتال في سوريا، ولاحقاً تأديب اللبنانيين المعترضين على ذلك أمام السفارة الإيرانية، وقتل أحد المتظاهرين على طريقة العقاب المباشر، الذي يبعث بأكثر من رسالة للداخل والخارج.
المعارضة السورية تفتقر إلى وجود قيادة سياسية مقنعة؛ فحتى مع مجيء الائتلاف الوطني ممثلاً للمجالس المدنية والقوى المسلحة في الداخل، فإنه لا يؤثر عليها في صناعة القرار أو حتى توجيه دفّة المعركة لتتبع التوجه السياسي، وبالتالي، لم يقدم الائتلاف أكثر مما قدمه المجلس الوطني السوري سابقاً.
أزمة المعارضة السياسية في التجارب العربية هي أزمة رؤية موحدة، فالتنافس الشديد على ملء الفراغ السياسي والاستقطاب ومحاولة البحث عن فرصة لابتلاع الحالة السياسية بين الفصائل المكونة للمعارضة جعلها تبدو هشة وضعيفة ومن دون رؤية جمعية، فضلاً عن تأثيرها الضعيف على المقاتلين في تسوية النزاعات وحتى في فرض شكل القيادة البديلة في المناطق المحررة على مستوى اتّخاذ القرارات السياسية الاستراتيجية؛ فالمجتمع الدولي الذي لم يقدم حتى الآن أي شيء يُذكر لدعم القضية السورية يترقب سلوك المجموعات المقاتلة على الأرض، خوفاً من تكرار تجارب وأخطاء المجموعات المقاتلة، وهي فرض رؤيتها المتطرفة الخاصة على المناطق المحررة.
مما لا شك فيه أن جل منطقة الشرق الأوسط الآن فقدت منطقها، وأصبحت مسرحاً للعبث واللامعقول من الأفكار والمواقف السياسية التي ستأخذ آثارها سنوات طويلة تفوق من حيث الحجم والتأثير سنوات النكبة والنكسة وحربي الخليج، وحتى ارتدادات الحادي عشر من سبتمبر، هذا ليس تشاؤماً بقدر أنه استشراف لواقع مؤلم بدت مقدماته بالظهور تباعاً.
ما حدث في سوريا هو تثبيت حالة العسكرة في البلاد بعد غياب أي حل سياسي، والأكيد أن المستفيد الأول من هذه «العسكرة» للحالة السورية هو النظام نفسه الذي بات يستخدمها كفزاعة لتثبيت حكمه وإفراغ الثورة من وقودها السلمي وتعبئتها بفوضى التسليح، مما أسهم في سهولة حشد رأي مضاد عالمي روسي صيني، وحتى لبعض دول أميركا اللاتينية التي ترى فيما يحدث اقتتالاً مسلحاً أقرب إلى الافتئات على النظام المدني العلماني، وهي أكذوبة على سذاجتها تم تمريرها بسهولة على دول كان لديها تحفظ على التدخل في المنطقة تحت شعار «الديمقراطية»، وهي الخطيئة الأميركية التي أصابتها بالفوبيا وعقدة الذنب.
عسكرة الواقع السوري كانت هدف النظام الأسدي، لكن هدفه الأساسي لتدمير الداخل هو اللعب على الوتر الطائفي الذي كان في البداية أقرب للمزحة، إذا ما أخذنا في الاعتبار رد الفعل العنيف من قبل أطياف الثورة السورية على الخطاب الطائفي الذي صدر من بعض الدعاة السوريين في الخارج، لكن هذه اللعبة الآن هي وقود تأجيج الصراع في الداخل السوري، لأنها تضمن تدفق مقاتلين لـ«النصرة»، كما تؤدي إلى سهولة تمرير فصائل إيرانية مسلحة وأفراد لـ«حزب الله» على قاعدة إنقاذ الأقليتين العلوية والمسيحية، وبالطبع هذه النغمة المحببة للدوائر الغربية تم نقلها بامتياز عبر حلفاء النظام السوري هناك من إعلاميين وسياسيين، والذين لا يتوانون عن التذكير بتجربة الحرب الأهلية اللبنانية.
على المستوى السياسي ينشط الآن تجار الأزمات وحالة اللااستقرار، الذين ترتفع حناجرهم الآن حيث يضغطون على دول الخليج المستقرة، بينما يتعامون عن قول أي كلمة فيما يحدث في تركيا قبلة النموذج السياسي للإسلام السياسي، والأكثر عبثية يصرّون على منح كامل الشرعية والتأييد لموجات العنف الدموي من قبل تنظيمات الإرهاب كـ«داعش» و«القاعدة» وأخواتها بدعوى أنهم ردة فعل لسلوك الأنظمة.
9:8 دقيقة
TT
سوريا: حالة العسكرة وغياب الحل السياسي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة