الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

إغراءات بداية السنة

تغري بدايات الأعوام بالعودة إلى تقليب صفحات السنين التي مضت، وبالدخول إلى ذلك العالم الغامض الذي اسمه «توقع المستقبل». ومثل كل حكايات العرّافين وقارئي الكف والمنجمين، يغامر الصحافيون بالذهاب في رحلة مماثلة، ينبشون فيها الأوراق، يستعرضون روايات فاتت، وأسماء شخصيات غابت، ويبقى كل ذلك في باب الرصد المشروع لأحداث مرت. لكن الزملاء يغامرون كذلك بإغراء القارئ بالقنديل السحري الذي يوحي بقدرتهم الفائقة على توقع ما سيأتي، فيفتحون الصفحات لإبلاغ قارئهم بالمفاجآت التي ينتظرون حدوثها في العام الجديد.
ومثل كل سنة، تسقط معظم التوقعات في الامتحان الصعب الذي يفرضه درس السنة الجديدة. عوالم من الغموض تلعب فيها الأقدار قدراً لا بأس به من السحر؛ لكن القارئ يحب اللعبة، ولا يمانع في مرافقة الصحافي في ارتكاب هذه الهواية. لعبة تمارسها مجلات وصحف عريقة تدخل في المنافسة، على ما تسميه «توقعات العام المقبل».
بين يدي - مثلاً - العدد السنوي الذي تصدره مجلة «الإيكونوميست»، وهي مطبوعة غير معروفة بممارسة لعبة الإثارة أو بيع التشويق الرخيص. مع ذلك تذهب هذه المجلة في رحلتها عبر أحداث العام المقبل وصانعيها المتوقعين، من خلال قراءتها لأحداث العام الذي مضى. لكن كل ذلك يبقى في باب التكهن الذي لا يمكن ضمان حدوثه.
شيء قريب من ذلك تفعله «الموند» الفرنسية، و«الفايننشيال تايمز»، صحيفة الحي المالي في لندن، وغيرهما من صحف العالم العربي، وعدد غير قليل من صحف العالم.
تتوقع «الإيكونوميست» الرصينة - مثلاً - أن القرية الكونية التي نعيش فيها ستصبح أكثر اتساعاً، وقد يصح أن نقول أكثر ضيقاً، إذ إن نصف سكان الكرة الأرضية سيصبحون موصولين بشبكة الإنترنت، وبالتالي سيصبح هذا العالم الافتراضي الذي نعيش في داخله، كل يوم؛ بل كل ساعة، أكثر انتشاراً.
تتوقع المجلة نفسها أيضاً أن العام الذي بدأ سيكون عاماً حافلاً بالزلازل السياسية في مختلف أنحاء الكرة التي نعيش فوقها، وتصفه بأنه سيكون «عام الارتجاجات»؛ لكن كل ذلك ينطلق طبعاً من قراءة المجلة للأحداث التي مضت، وبناء توقعاتها على هذا الأساس.
وتتعلق هذه التوقعات خصوصاً بالمستقبل القلق للاتحاد الأوروبي، وبارتفاع حدة المنافسة الأميركية - الصينية، وبالتوتر المتصاعد في الشرق الأوسط تحت ضغط التدخلات الإيرانية في مختلف أنحاء المنطقة العربية.
غير أن التجارب علمتنا أن المفاجآت قادرة على التحكم بمصائر الأحداث، وأن قدرة الناخبين على إدهاشنا عندما يذهبون إلى صناديق الاقتراع صارت قدرة تفوق كل حساب.
لقد صارت موجة الشعبوية التي تجتاح مناطق متعددة من العالم، أكبر من قدرة أي منا على التحسب لما ستفرزه هذه الموجة من مفاجآت.
«موبايلات» و«تويترات» في أيدي الناخبين، ولا قدرة لأحد على التحكم بها، ولا على معرفة اتجاه الرياح السياسية التي ستخرج من بين تغريداتها.
من كان يمكن أن يتوقع مثلاً فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية؟ أو ذهاب البريطانيين في تلك المغامرة المجنونة نحو التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ بل مَن يمكنه أن يتوقع الآن المخارج التي سيجدونها لإنقاذ بلدهم من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه؟ ومن كان يتوقع أن تبلغ رسائل الغرام بين الرئيس الأميركي ونظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون ما بلغته؟ حيث يصف ترمب الرسالة التي بعث بها كيم إليه بأنها «رسالة رائعة... لقد أرسينا علاقة جيدة جداً». وهذا في وقت لا يستطيع ساكن البيت الأبيض فيه أن يقيم علاقة سويّة مع أقرب جيرانه في الكونغرس.
وفي مكان أقرب إلى موقعنا الجغرافي، من كان يتوقع تعويم نظام بشار الأسد بالشكل الذي نراه اليوم، واحتمال نجاته من دفع ثمن الدماء التي أريقت في سوريا في السنوات الثماني الماضية؟ حتى أن «الإيكونوميست» تتوقع أن سوريا ستخرج مما تسميه المجلة «فوضى السنوات الماضية»، لتحتل المرتبة الأولى في النمو العالمي؟ ومن كان يتوقع قبل عام أن تشهد أجمل شوارع باريس، وربما العالم، ما شهدته في الشهور الأخيرة من العام الذي مضى من «ثورة صفراء» لم تعرف فرنسا مثيلاً لها منذ نصف قرن؟
هل يذكر أحد منا أنه قرأ شيئاً من هذه التوقعات في بدايات العام الذي انقضى؟
البحث عما يخبئه المستقبل لعبة مغرية. نشعر معها أننا لا نواجه مصيرنا الغامض؛ بل إننا قادرون على التحكم به، وربما أيضاً على صنعه؛ لكنها لعبة أثبتت السنوات والتجارب أنها لعبة كاذبة، قد ترضي غرورنا البشري لساعات، مع مرور مناسبة رأس السنة؛ لكننا سرعان ما نكتشف مع أول مفاجآت السنة الجديدة، كم أن القدر يقف لنا دائماً بالمرصاد، ليذكرنا بضعفنا البشري، وبقدرة الأحداث التي تجري من حولنا، والتي لا قدرة لنا على التحكم بها، لتغيير مجرى كبير من مسيرة حياتنا.
يحلو لي أن أتخيل مع بداية العام، لو أن السنين تمضي بطريقة عكسية! لو أننا مثلاً نكسب سنة من عمرنا بدل أن نخسرها، ونقرأ دفتر الأحداث بالمقلوب، فنطل من الحدث الذي مر بنا إلى ما سبقه! لو حصل ذلك ستكون لعبة التوقعات أكثر سهولة، وإرضاؤنا لشغف القارئ أكثر واقعية. لكن من أين لهذا الحلم أن يتحقق، فيما تخدعنا بداية السنة بما أحب أن أسميه الفرح الكاذب والقصير العمر، لنكتشف في اليوم التالي أن هذه اللعبة سرقت عاماً كاملاً من عمرنا في غفلة منا، ونحن غارقون في خداع الأرقام والتوقعات، وفي لعبة أكبر منا، هي لعبة اكتشاف مستقبلنا الغامض.