فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

التسامح وضرورات الزمن الجديد

زخم التسامح الذي تنتعش به المنطقة بفضل ضخ المؤسسات المدنية والدينية في السعودية والإمارات يستحق الدرس والتحليل؛ لقد مرّت سنون من رفض هذا المفهوم، ووقع ضحية لتيارين، أولهما: معارض له باعتباره يحمل مضمون منّة وعفوٍ من «الأنا» عن آخر افتراضي، وهذا قول تبناه رموز من الحداثيين الجذريين. والتيار الآخر منطقه متطرف، إذ يعتبر التسامح نقيصة في الدين، وفيه إخلال بقوة العقيدة، وبصلابة الميثاق، والواقع أن المفهوم ليس الغرض منه تبنيه بالمعنى اللغوي، أو الاشتقاق الاصطلاحي، كما يحاول بعض المناوئين العلمانيين الكلاسيكيين تصويره، بل الغرض منه إجرائي بحت، من خلاله يمكننا نزع فتيل أزمات كبرى، مهما كانت قيمة الاشتقاق، أو مضامين المعنى، أو خلل التفسير، ولا كما يقول بعض الخائفين إن به استنقاصاً للدين، بل الهدف بيّن وواضح ببساطة: أن تفهم الآخر كما هو لتتعايش معه، وليس كما ورثت أنت عنه من تصورات.
والتسامح لم يعد شعاراً بالنسبة للسعودية والإمارات؛ بل في كل حوارٍ أجري مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كان يخصّص فقراتٍ مطولة مضادة للكراهية، ولخطابات التطرف، ومشجعة على ضرورة تعزيز مناخات التعايش بين المسلمين وأهل الحضارات والديانات والثقافات الأخرى، يعرف الأمير ضرورة هذا المفهوم «التسامح» لإيجاد فضاءات سياسية واقتصادية وتعليمية فاعلة، ومن دونه يتحول المجال العام إلى فوضى عارمة مفرغة من مؤسسات الدولة وسيادة القانون.
والخطاب الداعم في المنطقة تقوده الإمارات ويرعى زرعه وثمره الشيخ عبد الله بن زايد الشغوف بقراءة تاريخ الشعوب والمطلع على فضاءاتها وغناها، وقد أسندت إليه مهمة رئاسة اللجنة الوطنية العليا لعام التسامح، إذ يعوّل على المفهوم بوصفه حامياً للمكتسبات الاجتماعية والوطنية، وحامياً للعلاقات الدينية البينية، ويسعى كما في تصريحاته المتعددة لترسيخ التسامح في قطاعات الدولة بالإمارات كافة.
طوال القرن الماضي سادت الرؤية لمستقبل الخطاب الديني أمشاج من التحليلات والتأويلات، وسيل من المشاريع النقدية بمجلداتٍ ضخمة، من مشاريع جذرها الماركسية، أو الحداثة الكلاسيكية، أو النقد الفيورباخي، أو التحقيب التاريخي، أو الحفر الأركيولوجي، واستعملت عدة مفاهيم مهمة وبالأخص لدى طه حسين، وأدونيس، ونصر أبو زيد، وعبد الله العروي، وحسن حنفي، ومحمد الجابري، وجورج طرابيشي، وحسين مروة، وعلي حرب، وهشام جعيط، ومحمد أركون، وغيرهم الكثير، كان الهدف هو التراث ليس لهدمه حتى لا ندخل بالوسوسة المعرفية، فالتراث قوي وله تاريخه وجذره ولا يمكن لكتابٍ أن يهدمه، بل الغرض معالجة الأسئلة التي أحدثتها العلاقات بين العرب والمسلمين والمجتمعات الغربية، بكل المفاهيم والعدة الهائلة التي تملكها، وقدم أولئك مشاريع لا تزال تتمتع بمفاهيم نابضة بالحياة، بل وأسست لأجيال نقدية متشاكسة ومتعارضة حتى داخل التيارات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها النقدية.
ثمة محاولات لترسيخ مفهوم التسامح أضرب مثلاً بمجلة عمل عليها أستاذنا الدكتور رضوان السيد وهي تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بعمان، ويمكن الآن إحياء عشرات المشاريع العصرية لإنعاش المفهوم بين المجتمعات لتخفيف جنون الكراهية والفهم المعكوس للحضارات والأمم والشعوب.
لقد ذاقت الأمم والشعوب أصنافاً من القتل، وألواناً من الحروب الأهلية، وذلك كله بسبب الجهل المدقع لدى الإنسان بالغيرية (على طريقة ليفيناس) إذ ترتكب أبشع المجازر وتسفك الدماء لعلة الجهل بالآخرين، وتساق أقسى خطابات العداوة والبغضاء ضد أمم لم يرد أحد إعطاء نفسه فرصة واحدة لفهمها أو النقاش معها. ولا يمكن نسيان ضعف السياسات الحكومية خلال العقود الماضية التي أهملت خطابات التطرف وأحياناً أعطتها الفرصة للكلام، واليوم أمامنا فرص تاريخية استثنائية بقياداتٍ شابة وعالمة وواثقة من مشاريعها التي تقودها، والأهم أن خلفها مجتمعات جبارة غير هيابة وشجاعة تريد السير خلف قادتها إلى بر الأمان.
ليس قليلاً ما رآه البشر من كراهية للمسلمين في البلقان، ولا من مجازر في القارة الهندية، ولا من مذابح عنصرية في أفريقيا، ولا من حرب أهلية هي مزيج من العرقية والطائفية في الشام.
لا يهم وصف المثقفين وتحليلهم وتفصيلهم الممل لمفهوم التسامح لغوياً وارتداداته، الأهم أن نشجع كلنا هذا الزخم التاريخي في هذه المنطقة، نحو سيادة التفاهم والتسامح والنقاش والحوار والتواصل العمومي، تلك هي نواة أي تنمية.