سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

أعدناها فأخذوها أم أرادوها فأعدناها؟

بعث السفير التركي في واشنطن سردار كيليش برسالة جوابية نيابة عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان إلى رئيس المؤتمر اليهودي الأميركي جاك روزن يقول فيها: «بالنظر إلى موقف القيادة الحالية للمؤتمر اليهودي الأميركي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة حيال الهجمات التي تستهدف المدنيين الأبرياء، سيسعدنا أن نعيد الجائزة التي منحت لنا في عام 2004. يشرفنا أن نعيد الجائزة وأن يكون السبب هو ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات قانونية وإنسانية». المجلس اليهودي الأميركي يقول إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان أصبح أشد زعماء العالم «معاداة لإسرائيل»، ويطالبه بإعادة ميدالية الشجاعة التي منحت له قبل عشر سنوات تقديرا لجهوده في مسائل مكافحة الإرهاب والعنصرية والعمل من أجل السلام، وإردوغان يقول إن إسرائيل بهجماتها على غزة «تجاوزت هتلر في الهمجية».. «لمن المؤسف ألا تستوعب هذه الشخصيات اليهودية ما تقوله تركيا حين لا تفرق بين رفضها لمعاداة السامية وبين دولة الإرهاب إسرائيل التي ترتكب المجازر في قطاع غزة على مرأى ومسمع المجتمع الدولي».
لم نفهم بعد تفاصيل ما جرى: هل الإسرائيليون هم الذين طالبوا باسترداد جائزتهم الممنوحة لإردوغان قبل عقد من الزمن؟ أم أن الأخير هو الذي أعادها لهم بسبب تجاهلهم لحجم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟ المنظمات اليهودية العالمية التي قدّمت إلى إردوغان «درع الشجاعة» قبل عشرة أعوام، تقول إنها نادمة على ما فعلته. فشجاعته هذه المرة في توصيفاته الجديدة حول إسرائيل والصهيونية هي التي أغضبَتهم وخيَّبت آمالهم، فهل تتطور المسألة إلى استخدام تل أبيب الأوراق الكثيرة التي تملكها ضد تركيا؟
حكومة نتنياهو تردد دائما أنها لا تتحمل مسؤولية التوتر في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بل إن إردوغان هو الذي يتعمد افتعال المشاكل والأزمات وتضخيم الأمور ومحاولة لعب أوراق لا تعنيه مباشرة.
إردوغان الذي يردد دائما أنه لا يُحبّ كثيرا لغة اللف والدوران، يحاول أن يقول شيئا ما لتل أبيب، لكنه لن يغامر أبدا في إقحام أنقرة في مواجهة قد تطول وتتشعب وتتجاوز العلاقات التركية - الإسرائيلية لتصل مباشرة إلى مسار العلاقات بين أنقرة وواشنطن من جهة، وعلاقات أنقرة مع كثير من العواصم الغربية من جهة ثانية. إردوغان لم يأخذ يوما بانتقادات الأب الروحي للحركة التي انطلق منها القيادي الإسلامي نجم الدين أربكان، الذي وصف المنشقّين عنه في «العدالة والتنمية» بأنهم أداة في يد الصهيونية، لا بل إنهم يشرفون على أمانة صندوقها.
فلماذا إذن فجّر المسألة بهذا الشكل وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها المنطقة ونحن نتحدث عن تقدم إيجابي في ملف العلاقات المتراجعة بين أنقرة وتل أبيب؟ قناعتنا كانت دائما هي أن التوتر في العلاقات التركية - الإسرائيلية بين الحين والآخر لن يصل أبدا إلى القطيعة. انفجار العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة منح تركيا الفرصة ربما للتذكير بموقفها حيال القضية الفلسطينية لكنه أعطاها الفرصة للخروج من حالة الانغلاق والمحاصرة التي كانت تعيشها إقليميا في سوريا وشمال أفريقيا والعلاقات مع مصر والعديد من الدول الخليجية أيضا. إردوغان دون شك سيجير مواقفه السياسية في غزة انتصارا انتخابيا بعد أيام في معركة الرئاسة التي ستجرى في نهاية هذا الأسبوع. عندما كان اللوبي اليهودي في أميركا يقدم لإردوغان درع الشجاعة عام 2004 كانت العلاقات التركية - الإسرائيلية في ذروتها لناحية التعاون والانفتاح والتنسيق. اللوبي اليهودي لا يمنح هداياه بالمجان وإردوغان الذي حصل على الجائزة التقديرية هذه كقيادي مسلم وحيد تمنح له حتى اليوم لم ينجح في الاحتفاظ بها إلا لعشر سنوات فقط. لكن ما يجهله البعض هو أن بين يدي إردوغان جائزة ثانية لا يتحدث عنها أحد منحت له بعد عام فقط من الجائزة الأولى تقديرا لمواقف تركيا إبان الحرب العالمية الثانية.
جائرة عام 2004 التي منحت لإردوغان بسبب مواقفه من التطرف والإرهاب هي غير جائزة عام 2005 التي قدمت لأنقرة تقديرا لجهودها وخدماتها إبان الحرب العالمية الثانية لحماية اليهود من النازية الألمانية.
مفارقة أقلقت البعض، إردوغان يصعد ويندد لكنه لا يترجم ذلك عمليا على الأرض، إسرائيل هي التي تقوم بذلك دائما. ترى هل هو ما دفع مرشح الشعب الديمقراطي الكردي المعارض لمنصب الرئاسة صلاح الدين ديميرطاش للقول إن أحدا لا يأخذ مواقف إردوغان على محمل الجد. العلاقات التركية - الإسرائيلية لم تكن يوما مرتبطة بمسار الملف الثنائي بينهما بل كانت دائما تتقدم وتسير تحت تأثير ملفات إقليمية ودولية متداخلة ومتشابكة تأخذ بعين الاعتبار مصالح واشنطن شريكهما الأول في منطقة الشرق الأوسط.
أنقرة ومنذ نهاية الأربعينات وبعد إعلان الدولة الإسرائيلية، غيرت من مواقفها تجاه إسرائيل وحسنت من علاقاتها معها بعدما حصلت على هدايا أميركية وغربية كثيرة بينها قبولها في المنظومة الغربية الأوروبية إلى حد ما.
اعترفت بالدولة الإسرائيلية عام 1949 لكنها ابتعدت عن إسرائيل في العدوان الثلاثي على قناة السويس عام 1956. حسنت من علاقاتها مع تل أبيب بعد الثمانينات رغم القطيعة معها في موضوع العاصمة الإسرائيلية في مطلع الثمانينات.
سفير إسرائيل السابق بينناس افيفي كان يقول في عام 2005 إن العلاقات التركية - الإسرائيلية تعيش عصرها الذهبي في هذه الآونة. في عام 2006 تل أبيب كانت تعبر عن تقديرها للجهود التي تبذلها حكومة إردوغان باتجاه الوساطات والمبادرات الهادفة لتحسين علاقات إسرائيل مع العديد من الدول العربية والإسلامية.
عام 2008 كانت نقطة سلبية في تدهور العلاقات وتأثرها بأكثر من أزمة يتقدمها العدوان على غزة وبعدها الحرب على جنوب لبنان ثم أزمة «الكرسي الواطي» الدبلوماسية بين الطرفين والعدوان على أسطول الحرية في مرمرة.
ثورات الربيع العربي رحبت بها إسرائيل ثم بدلت من موقفها على الفور عندما شعرت بحجم الخطورة التي تستهدفها. إيران التي تحسن من علاقاتها مع أميركا وأوروبا سبب آخر للتقارب التركي - الإسرائيلي ضحت به القيادات السياسية في البلدين.
إردوغان يعيد الجائزة للإسرائيليين بطلب من أصحابها، لكن هناك أسئلة أخرى على هامش إعادة الجائزة حول ما إذا كانت حكومة العدالة والتنمية ستعيد علاقاتها مع إسرائيل إلى ما قبل عقود أم لا وبعد كل ما شيدته من علاقات تعاون تجاري وتنسيق أمني وعسكري؟
تراجع سياسي دبلوماسي في العلاقات، لكن مسار العلاقات التجارية والمالية لم يتأثر كثيرا كما تقول أرقام العامين الأخيرين في الجانبين.
سرغين تانري كولو، نائب الشعب الجمهوري التركي المعارض والرئيس السابق لنقابة المحامين في مدينة ديار بكر، قدم استجوابا لوزير الدفاع التركي يسأله فيه عن تفاصيل حجم التعاون الأمني والاستخباراتي بين أنقرة وتل أبيب من خلال الأقمار الصناعية التركية. كما يسأل عن طبيعة التعاون التركي - الإسرائيلي العسكري في قواعد مدينة قونية العسكرية لسنوات طويلة وهل انتهى هذا التعاون أم لا؟
إعادة جوائز الشجاعة لن يكفي لأن جوائز الترضية التي حصلت عليها تركيا أميركيا وأوروبيا هي المهددة اليوم، فهل بمقدور أنقرة تحمل أعباء مكلفة من هذا النوع؟