لأسباب خارج إرادته في الجزء الأكبر منها، يجري اليوم على نطاق عريض تحميل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي اللوم على تأجيج حالة عدم الاستقرار داخل الأسواق المالية، والمخاطرة بدفع الاقتصاد الأميركي خارج القضبان.
ويبدو هذا الوضع على النقيض تماماً مما كان عليه الحال منذ بضعة أشهر عندما كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يتلقى الإشادة من جانب الكثيرين لدوره في كبح جماح التقلبات داخل السوق المالية بفاعلية وقوة. وعلى ما يبدو، فالأمر لا يعدو كونه مسألة وقت قبل أن يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه في وضع مشابه، بل وربما أكثر قسوة.
الحقيقة أن كلا البنكين المركزيين دخل مرحلة جديدة تحيطها الشكوك على نحو أكبر قد تدوم لبعض الوقت، وتتطلب قدراً أكبر من المهارة والذكاء، وكذلك بعض التغييرات العملية، لاجتيازها بسلام.
لدى خروجها من الأزمة المالية العالمية عام 2008، خرجت البنوك المركزية عن مسارها المعتاد بتعزيز أسعار الأصول كوسيلة لدعم الاقتصاد. ونجحت هذه البنوك في تجاوز تقلبات الأسواق من خلال دفع معدلات الفائدة نحو الانخفاض وشراء كميات ضخمة من سندات الديون وحفظها في مأمن داخل ميزانياتها، وعندما كانت تقع موجة تقلبات، كانت هذه البنوك تسارع إلى إعادة الطمأنة للأسواق عبر توفير دعم واسع ومتناغم.
وبطبيعة الحال، فإن هذه المرحلة غير المسبوقة في تاريخ عمل البنوك المركزية كانت لها حدودها وقيودها. ومثلما سبق أن شرحت في كتاب نشرته عام 2016، فإن سياسة شراء بعض الوقت حتى يضمد الاقتصاد جراحه كانت لها تكاليفها وتداعياتها غير المقصودة. وعليه، فإنه عندما حانت الظروف المواتية لإعادة السياسات لنهجها الطبيعي، توقف «الاحتياطي الفيدرالي» عن برنامج شراء الأصول ورفع أسعار الفائدة تسع مرات وعمد ببطء إلى تقليص ميزانيته. وسار البنك المركزي الأوروبي من جانبه على نهج مشابه. وبعد تقليصه برنامج شراء الأصول الخاص به على مدار الشهور القليلة الماضية، من المقرر أن يوقف البرنامج تماماً نهاية هذا العام وربما يشرع في رفع معدلات الفائدة خلال الصيف.
بيد أن ما بدأ كعملية سلسة ومنظمة إلى حدٍّ ما تحول بمرور الوقت إلى إشكالية ومعضلة، خصوصاً بالنسبة إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يواجه اتهامات بتأجيج حالة عدم الاستقرار المالي والمخاطرة بالسلامة الاقتصادية للبلاد.
في الوقت الراهن، تعاني أسواق الأسهم من تقلبات شديدة، بينما تسببت الأسعار المتراجعة في معايشة الأسهم العادية لواحد من أسوأ شهور ديسمبر (كانون الأول) في تاريخها. في الوقت ذاته، تراجعت مستويات ثقة المستهلكين والتوقعات المرتبطة بها. ورغم ما سبق، فإن الكثير من التقلبات التي شهدتها الأسابيع الأخيرة تعود في حقيقة الأمر إلى عوامل تقع خارج سيطرة «الاحتياطي الفيدرالي»، منها: - تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي مع مواجهة أوروبا والصين صعوبات في تنفيذ سياسات مواتية للنمو.
- مخاوف اقتصادية أخرى متنوعة ما بين الغلق الجزئي للحكومة الفيدرالية والسياسات التجارية في وقت تنتظر الأسواق التعرف على ماهية التنازلات التي ستعرضها الصين على الولايات المتحدة لإنهاء الحرب التجارية بين البلدين.
- أسعار الأصول التي ظلت لسنوات منفصلة عن اعتبارات جوهرية في خضم توافر سيولة كبيرة وسهل التنبؤ بها.
- انتشار الاستثمار السلبي والمضاربة باستخدام الكومبيوتر والأموال التي تجري المضاربة فيها داخل البورصة، بما في ذلك بعض السيولة التي جرى الوعد بها داخل فئات من الأصول تحوي بطبيعتها قدراً أقل من السيولة، الأمر الذي يؤجج مخاطرة العدوى بالاتجاهين الأعلى والأسفل.
ويبدو الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تضرب الأزمة البنك المركزي الأوروبي. ونظراً إلى أن عملية التطبيع التي يجريها البنك تركز حالياً على سياسة الميزانية، بدلاً عن التحركات الأكثر وضوحاً في ما يتعلق بمعدلات الفائدة، فإنها لم تجتذب ذات القدر من الاهتمام مقارنةً بالحال مع «الاحتياطي الفيدرالي».
إلا أن هذه العملية تواجه قدراً أكبر بكثير من الأسئلة في ما يتعلق بالنمو البطيء داخل منطقة اليورو، وبعض أوجه الضعف في المنظومة المصرفية بالمنطقة، وجيوب من الديون المفرطة، وحالة تأزم سياسي تقيد إمكانية تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمالية المطلوبة.
بالنظر إلى هذه الخلفية، تنامت مخاطرة حدوث تقلبات من الممكن أن تقوّض الاقتصاد العالمي، وربما يفقد بعض المستثمرين الثقة بالأسواق المالية التي تسير على نحو منظم. وبطبيعة الحال، يتسبب هذا في التمويه على الفوائد المترتبة على الانتقال الذي كان من المفترض حدوثه منذ أمد بعيد باتجاه نظام مالي أقل تشوهاً، وإلا ربما نتعرض لأضرار اقتصادية أكثر فداحة بكثير في الفترة المقبلة.
الحقيقة أنه ليس هناك مخرج سهل من هذا الموقف. ومن المعتقد أن التركيز على «الاحتياطي الفيدرالي» سيزداد خلال العام المقبل. وسيتجلى ذلك خلال المؤتمرات الصحافية التي يعقدها البنك.
في كل الأحوال، ستتعرض البنوك المركزية لانتقادات أكبر من جانب السياسيين والعناصر المشاركة في الأسواق والمحللين. ورغم ذلك، ليس أمام هذه البنوك الكثير لعمله حيال هذا الأمر.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT
الحياة تزداد صعوبة أمام البنوك المركزية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة