نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

المؤسسات الكبيرة وهيمنة المستثمرين

غالباً ما يتحكم العامل الاقتصادي في البرامج التلفزيونية بدرجة أكبر مما نعتقد. ومن الأمثلة على ذلك حلقات «سيتكوم» الكندية بعنوان «كيمز كونفينيانس»، أو تأقلم كيم، التي تناولت مغامرات زوجين كوريين هاجرا إلى تورونتو صحبة طفلهما المولود في كوريا.
ففي الوقت الذي يركز فيه غالبية الإعلام على المعاناة الاقتصادية، عرضت حلقات «كيمز كونفينيانس» قصة كفاح ملهمة في سبيل رغد العيش من خلال سرد تجربة واقعية للمهاجرين، سواء إلى كندا أو الولايات المتحدة. فقد وصل أبطال القصة، كيم وزوجته، إلى كندا من دون الإلمام ولو بقدر بسيط من اللغة، ومن دون علاقة بمشروعات تجارية أو الحصول على مؤهلات دراسية، ولذلك فقد فعلا ما يفعله غيرهما من المهاجرين وهو افتتاح مشروع صغير.
فقد أظهرت دراسة أعدها «معهد السياسات المالية» الأميركي البحثي عام 2012 أن 18 في المائة من الأعمال الصغيرة التي أحصيت في الولايات المتحدة عام 2010 يمتلكها مهاجرون، ذلك رغم أن المهاجرين لا يمثلون سوى 13 في المائة من تعداد سكان البلاد. وفي تجارة التجزئة، تمثل المشروعات الصغيرة التي بدأها المهاجرون 22 في المائة من إجمالي ذلك النوع من المشروعات.
بالنسبة لكيم وزوجته، كما هو الحال بالنسبة للمهاجرين في الواقع المعاش، فإن المشروعات الصغيرة تمثل البوابة للارتقاء المعيشي. وفي هذه الحلقات، فإن ابنة كيم الصغيرة تداوم على حضور دروس في فن التصوير الفوتوغرافي، فيما يحاول ابنه ارتقاء السلم الوظيفي ببطء في شركة لتأجير السيارات رغم وضعه غير القانوني في بلد المهجر. لكن هذه القصة ليست من ذلك النوع الذي يسرد قصة صعود دراماتيكي كتلك التي يتناولها الكُتاب في مقالاتهم، فكيم لم ينتهِ به المطاف بتأسيس شركة بمليارات الدولارات أو أتى باختراع مذهل، وكذا لم يُعين أستاذاً بجامعة هارفارد، بل هو مجرد شخص متواضع من طبقة متوسطة يحقق تقدماً بطيئاً.
إن تصوير كهذا يعد واقعياً، إذ إن هناك إجماعاً عاماً على أن أبناء المهاجرين غالباً ما يحصلون على دخل أعلى من آبائهم من مهاجري الجيل الأول، ويحققون نجاحات أكبر مقارنة بآبائهم المولودين في بلادهم. ويحصل أبناء المهاجرين المهرة على دخل أكبر من أقرانهم، فيما يحصل أبناء المهاجرين الأقل مهارة على دخل أقل. لكن في كلتا الحالتين، فإن تحسن الحال ما بين الجيلين الأول والثاني هو القاعدة، ذلك لأن الجيل الثاني غالباً ما يكون أفضل تعليماً ويعيش في منازل بأسعار أعلى ومعدلات فقر أقل، مقارنة بآبائهم. ونتيجة لذلك، فقد خلص كثيرون إلى أن الحلم الأميركي لا يزال قائماً أمام النازحين من دول أخرى.
غير أن المغزى الاقتصادي لحلقات «كيم مونفينيانس» يتعدى حدود تجارب المهاجرين. إن إظهار العلاقة بين المشروعات الصغيرة والارتقاء المعيشي من شأنه أن يبرز نوعاً من قصص النجاح المهمة للطبقة المتوسطة في المجتمع الأميركي (وكندا)، نظراً للخطر الذي يتهدد هذه الطبقة تحديداً.
إن بعض أسباب ذلك الخطر يرجع إلى تراجع شركات التكنولوجيا والشركات سريعة النمو، لكن غالبية الأسباب، خاصة في فترة الثمانينات والتسعينات، جاءت من فشل كيانات الأعمال الصغيرة. ففي تجارة التجزئة، على سبيل المثال، فإن التغيير الأبرز تمثّل في انتشار سلاسل المحالات التجارية.
في بحث نشر عام 2009، كتب خبراء الاقتصاد رونالد جيرمين، وشوان كيلميرك، وجيفر ميرندا، يقولون في عام 1948 بلغت نسبة مشروعات المتجر الواحد 70.4 في المائة من إجمالي مبيعات التجزئة، وبحلول عام 1977 تراجعت تلك النسبة إلى 39 في المائة.
بمعنى آخر، فإن انتشار متاجر مثل فروع محلات «ولمارت» تعني تراجع ذلك النمط الذي ورد في حلقات «كيم كونفينيانس». وبالطبع هناك سبب اقتصادي بالغ الأهمية لذلك التحول، هو أن سلاسل المحلات الكبرى تعد أكثر إنتاجية وتدوم فترة أطول أكثر من المحال الصغيرة، مثل «موم آند بوب». فسلاسل المحلات تتمتع بقدرة أكبر على التعامل مع نظيرتها من السلاسل العالمية، وعلى التسويق على نطاق أوسع، وعلى عرض الماركات العالمية المعروفة، وغيرها من المزايا التي توفرها المؤسسات الكبيرة.
لكن في مقابل تلك الإنتاجية الكبيرة، هناك شيء مهم مفقود، وهو أنه في الاقتصاد الذي تهيمن عليه المؤسسات الكبيرة، فإن ملكية رأس المال تكون مركزة في يد المستثمرين، لا في يد الشريحة الأوسع من ملاك المشروعات الصغيرة. حتى في حال إجبار أصحاب المشروعات الصغيرة - المستعدين للمخاطرة في أعمالهم الخاصة - على العمل موظفين في مؤسسات كبار المستثمرين، بدلاً من العمل بشكل مستقل، فإنهم يفقدون ميزة الاستقلالية التي توفرها الأعمال الخاصة. كذلك فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين على الاعتماد أكثر على علاقات ومهارات العمل وعلى المؤهلات الدراسية، التي تعد جميعها مزايا تتركز في يد أبناء الميسورين.
بمعنى آخر، قد يكون تراجع المشروعات الصغيرة سبباً في زيادة الإنتاج، لكن ذلك سيكون على حساب الاستقلالية والمساواة والحراك الاقتصادي، ما يؤدي إلى تدمير أدوات محاربة الاشتراكية.
كيف لنا أن نمنع ذلك؟ جاءت التجارة الإلكترونية لتشكل الحل الأنسب لهذه المشكلة. لكن هنا علينا القول إن الحكومة في دعمها للمشروعات الصغيرة، وكذلك المشروعات الجديدة، لا يجب أن تفضل نمطاً من المشروعات على غيره. وتعد التخفيضات الضريبية من الأدوات التي يمكن للحكومة المساعدة من خلالها، ويمكن لها أيضاً أن تقدم المساعدات للراغبين في إنشاء مشروعات صغيرة، وذلك بالتعاون مع المنظمات غير الربحية. الخيار الثالث هو زيادة الدعم لأصحاب التوكيلات الأجنبية، وهي الطريقة التي تقدم من خلالها مزايا المؤسسات الكبيرة، وفي الوقت نفسه تحتفظ ببعض سمات الملكية الفردية.
إن الارتقاء بالمستوى المعيشي والملكية الخاصة، كلاهما من سمات المجتمع الصحيح المنتعش في الدول الرأسمالية. تعرض حلقات «كيم كونفينيانس» كيف يمكن للمهاجرين إنعاش المجتمع، لكنها أيضاً تعزز من أهمية المشروعات الصغيرة.
أتمنى أن يشاهد صانعو القرارات المسلسل ويتأملوا رؤيته للمجتمع الفاضل!
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»