سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

مسمار جحا تركي في واشنطن!

هل ذهب الخيال بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى هذا الحد؟! لقد تخيل أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعطاه وعداً خلال لقائهما في قمة مجموعة العشرين، التي انعقدت آخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في الأرجنتين، بالنظر في أمر تسليم الداعية فتح الله غولن إلى تركيا!
وما كاد مولود جاويش أوغلو، وزير خارجية إردوغان، يتحدث عن هذا الوعد، أثناء وجوده في برلمان بلاده الأحد قبل الماضي، حتى خرج مسؤول أميركي في البيت الأبيض لم يشأ أن يسمي نفسه، ليؤكد أن هذا لم يحدث بين الرئيسين، وأن ترمب لم يتكلم مع الرئيس التركي في الأمر في الأرجنتين، ولا في غير الأرجنتين، وأن غولن باقٍ في الولايات المتحدة كما هو منذ عام 1999!
ومعروف أن غولن يرأس حركة إسلامية اسمها حركة «خدمة»، وأنها موجودة بشكل واسع على المستوى الاجتماعي، والتعليمي، والخيري، في تركيا، وفي دول كثيرة غير تركيا، وأن لها مدارس تتبعها على امتداد العالم، وأنها تعتمد التعليم الأميركي في مدارسها، وأن غولن لجأ إلى أميركا منذ 19 عاماً، فأقام في ولاية بنسلفانيا ولا يزال، وأن ذلك جاء في أعقاب خلاف شديد نشب بينه وبين إردوغان، بعد أن كانا حليفين قريبين، وأن الرئيس التركي يتهم الداعية بأنه كان يقف وراء محاولة الانقلاب التي استهدفته منتصف يوليو (تموز) من العام قبل الماضي، والتي فشلت في اللحظات الأخيرة بمعجزة، كما بدا لمتابعيها على شاشات التلفزيون ليلة وقوعها!
والرئيس التركي يطارد هاجساً اسمه غولن، منذ وقعت المحاولة إلى هذه اللحظة، ولا يتوقف عن الحديث عن وجود لرئيس حركة «خدمة» وراءها، ولا عن اعتقال كل الذين يراهم أتباعاً للحركة وأنصاراً لها على طول المجتمع وعرضه، حتى وصل عدد المعتقلين إلى الألوف، وحتى شمل الاعتقال مختلف الطوائف في الدولة، ودون استثناء، بدءاً من صفوف الجيش، وصولاً إلى صفوف الشرطة، إلى صفوف المحامين، إلى صفوف المدرسين، إلى صفوف الصحافيين، إلى الجميع، وبغير تفرقة، إذ يكفي أن يقال إن فلاناً من المواطنين ينتمي إلى حركة «خدمة»، ليكون هذا سبباً كافياً جداً لوجوده طرفاً في محاولة الانقلاب، ثم يكون كافياً بالدرجة ذاتها للقذف به خلف الأسوار!
ولم يسكت غولن في مواجهة الاتهام، ولكنه تكلم أكثر من مرة، فقال ما معناه أنه مستعد للخضوع للمحاكمة، إذا ثبت أن دليلاً واحداً يقول بوجوده وراء المحاولة على أي مستوى. ولم يقدم إردوغان أي دليل إلى الآن، ولا هو قد توقف عن اتهام رئيس الحركة الشهيرة في كل مناسبة!
ولكن بصرف النطر عن وجود غولن وراءها، أو عدم وجوده، فالسؤال هو: هل لدى واشنطن استعداد لتسليمه إلى أنقرة؟! التجربة تقول إن الولايات المتحدة تحتفظ بضيوفها من نوعيته، ليس حباً فيهم طبعاً، ولا حتى كرهاً في الخصوم السياسيين لهؤلاء الضيوف في بلادهم على مستوى السلطة، فالسياسة لا تعرف الحب ولا تعرف الكراهية، وخصوصاً بالطبع السياسة الأميركية التي تقوم على أساس مبادئ الفلسفة البراغماتية، وهذه الفلسفة بدورها إنما هي فلسفة أميركية لحماً ودماً، والأهم فيها أنها تقيس مختلف الأمور في شتى حالاتها بمدى حصيلتها العملية على الأرض!
وفي السابق كانت إدارات أميركية متعاقبة، قد احتفظت بالشيخ عمر عبد الرحمن، وراحت تساوم الرئيس الأسبق حسني مبارك عليه، وتغازله سياسياً به، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى حد تهديد نظام مبارك بالشيخ عمر، وكان الأسلوب المُتبع هو تضخيمه في الإعلام الأميركي في حينه، والنفخ في صورته، ثم تصويره وكأنه بديل مبارك القادم. وهي قصة كبيرة يذكر حلقاتها المتتابعة الذين عاشوها وتابعوها في تسعينات القرن الماضي، على شاشات وصفحات الإعلام الأميركي!
ولا يختلف غولن عن الشيخ عمر في شيء، من حيث الطريقة التي تتعامل بها إدارة ترمب مع مثل هذا الموضوع في كل حالاته، ولكن فارقاً بسيطاً يميز حالة الداعية التركي عن الداعية المصري الراحل، الذي قضى حياته سجيناً في أميركا، إلى أن عاد جثمانه بعد وفاته إلى مصر، فدفنوه في مقابر الأسرة في محافظة الفيوم جنوب القاهرة، وسط إجراءات أمن مشددة!
الفارق أن غولن يشبه مسمار جحا في حكاية جحا المعروفة، والمفارقة هنا أن جحا سواء كان شخصية خيالية شعبية، أو كان شخصية واقعية، فهناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين الذين تعرضوا لحكايته، على أنه كان تركي الأصل، وأن حكاياته وقصصه الكثيرة والمثيرة، كانت تدور في المنطقة التي تقع فيها تركيا على الخريطة، ولذلك، فما أشبه حكاية مسماره بحكاية غولن في جانب من جوانبها!
والقصة أن جحا كان يملك بيتاً، وأنه جاء عليه يوم عرض فيه البيت للبيع، ولم يتوقف كثيراً عند ثمنه، وكان يصارح كل راغب في الشراء بأنه كصاحب بيت لن يفاصل طويلاً في السعر؛ لأن ما يهمه ليس البيت في حد ذاته، ولكن يهمه مسمار في حائط من حوائط بيته، وكل ما يريده من المشتري أن يترك المسمار في مكانه، وألا يحركه من موضعه، وأن يسمح له - أي لجحا - بزيارة البيت من وقت لآخر لرؤية المسمار والاطمئنان عليه! أما السبب فهو أن هذا المسمار مرتبط بذكرى عزيزة عليه، وأنه عاهد نفسه على أن يحتفظ به، باعتباره تجسيداً للذكرى الغالية، وألا يُفرّط فيه، حتى ولو فرّط في البيت!
ولم يشأ الشاري أن يناقش جحا طويلاً في المسألة، فلقد حصل على البيت بثمن اعتبره في الحقيقة رخيصاً، ولكنه سرعان ما أدرك أنه قد اشترى صداعاً مُزمناً مع البيت، وأن هذا الصداع اسمه مسمار جحا، وأنه لا يعرف كيف يتخلص منه، ولا كيف يعالجه. ففي صباح كل يوم كان جحا يأتي، فيدخل بغير إذن تقريباً، ويظل يتطلع إلى مسماره من كل اتجاه، ثم يغادر، ومع تكرار زياراته لم يعد صاحب البيت يحتمل ولا يطيق، ولكنه لم يكن يستطيع فعل شيء؛ لأن عقد البيع كان واضحاً، ولأن بند المسمار في العقد كان يمنح جحا حق الدخول في أي وقت دون استئذان!
وهكذا تقريباً تبدو حكاية الداعية غولن. فالولايات المتحدة تحتفظ به ورقة في يدها، لعلها تستخدمها في الوقت الذي ترى أنها في حاجة إلى ذلك في علاقتها مع إردوغان. وقد حاول الأخير فعل الشيء نفسه مع القس الأميركي أندرو برانسون، فاحتجزه وأرسله إلى المحكمة، ولكنه وجد نفسه مضطراً في النهاية إلى الإفراج عنه في 12 أكتوبر (تشرين الأول)، دون أي شروط، ودون أي إدانة!
واشنطن لن تسلم غولن؛ لأنه بمثابة مسمار جحا في يدها. وإذا كان إردوغان لا يستوعب ذلك فهذا ذنبه، لا ذنب الأميركان!