حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

السودانيون ودروس الأعوام الماضية

إذا صحّ أن التظاهرات التي يشهدها السودان لا تمت بصلة إلى ثورات عام 2011 العربية، فالصحيح أكثر هو أن أسلوب الحكومة السودانية في التعامل مع الاحتجاجات يعيد ربط الوضع السوداني بأزمة الأنظمة العربية المستمرة منذ ما قبل اندلاع «الربيع العربي». ولا يقود العنف في مواجهة المتظاهرين واللجوء إلى نظريات المؤامرة لتفسير الأحداث وخلفياتها وتجاهل مطالب المواطنين البسيطة والمحقة إلا إلى تصعيد ردود الفعل واستبعاد الحوار كطريق للحل السلمي والسياسي.
التظاهرات التي بدأت رفضاً لقرار الحكومة رفع سعر الخبز والوقود والتي اتهم الرئيس عمر البشير «مندسين» بالمسؤولية عنها، سلطت الضوء – على غرار ما فعلت تظاهرات الثورات العربية – على مكمن العلة في أكثرية الأنظمة العربية. ولا تقتصر أزمة الحكومات هذه، وآخرها حكومة الخرطوم، على سوء الإدارة الاقتصادية ولا على التمسك بالسلطة «إلى الأبد» بحسب الشعار الشهير للرئيس السوري السابق حافظ الأسد وابنه الرئيس الحالي بشار، بل بمسألة باتت غير قابلة للحل في هذا الجزء من العالم، وهي قضية الشرعية، وهي أساس أي نظام لا يقوم على البطش والقمع المجردين. ولعله من المفيد التذكير أن السودانيين نزلوا إلى الشوارع مرات عدة في الأعوام القليلة الماضية حاملين مطالب الإصلاح والعدالة، من دون أن يفلحوا، على ما يبدو، في نيل حقوقهم.
منذ اليوم الأول للثورات العربية الذي أُرّخ له بإحراق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه، ظهرت قضية شرعية الحكومات العربية كعنصر يستدعي إعادة تقييم جذرية: لقد تبخرت الأسس التي بنى عليها الحكام العرب شرعياتهم، سواء الثورية أو «الإنقاذية» و«التصحيحية»، ويتعين عليهم اليوم تفسير السبب الذي يدعوهم إلى البقاء ممسكين بالسلطة على الرغم من كل الفشل الذي رافق أعوام حكمهم الطويلة والخراب الذي أنزلوه بمجتمعاتهم ودولهم وشعوبهم.
ووفرت هزيمة الثورات العربية، خصوصاً التي أغرقت بالدماء، ذخيرة ممتازة لدعاة «الاستقرار» ولو من صنف استقرار المقابر. ذلك أن إنكار حالة الضيق التي يكابدها المواطنون بذريعة أن الاستجابة لها ستؤدي إلى تكرار ما حصل في سوريا أو ليبيا من دمار وقتل وتهجير، لا يفضي في واقع الأمر إلا إلى دفع الأمور إلى الانفجار في ظل أزمة الشرعية وانعدام الرؤية إلى المستقبل ومعنى تحنيط أساليب الحكم في عالم متغير. و«ما جرى في سوريا وليبيا» لم يكن بسبب المطالب المشروعة بالعدالة والكرامة والمشاركة بل بسبب الرفض القاطع للإصلاح ما جعل الثورات تنزلق من سوية الاعتراض السياسي إلى حال الحروب الأهلية والطائفية والقبلية.
وليس سراً ولا كشفاً القول إن وقف تآكل شرعية أي نظام يتطلب الشروع بتوسيع القاعدة السياسية له من خلال زيادة عدد المستفيدين من بقائه. الترجمة الحرفية للفكرة هذه غالباً ما يفسرها السياسيون العرب باعتماد الزبائنية كوسيلة لإرضاء المعارضين، في حين أن المقصود عكس ذلك تماماً. فتوسيع القاعدة السياسية تعني إشراك أعرض الشرائح الاجتماعية في صوغ القرارات الكبرى ورسم السياسات التي تحدد مستقبل البلاد وهذه مهمة ينبغي أن تشارك فيها فئات الشباب والنساء وأصحاب الدخل المحدود بصفتها الجماعات الأكثر هشاشة والأقل تمتعاً بالحماية في مجتمعاتنا العربية. وبديهي أن من مسه رفع سعر الخبز في السودان وقصد الشارع متظاهراً، هو الطرف المستحق للعدالة وللاستماع إلى معاناته.
جانب آخر من أزمة الشرعية يتمثل في اغتراب المواطن العربي عن العالم. وجعل تدهور مستويات التعليم وغياب التفكير النقدي عنه والقيود المفروضة على وسائل الإعلام واحتكار الوصول إلى المعلومات، المواطن العربي أسيراً للوعي الخرافي وعرضة للخضوع لتيارات عدمية على النحو الذي شهدته منطقتنا في العقد الماضي من صعود لجماعات «القاعدة» و«داعش» وما يشبههما. بذلك، يجد المواطن العربي نفسه في عزلة عن العالم وتطوراته فيما يقابله العالم بالتجاهل والتهميش، لتبدأ من هنا دورة جهنمية من العداء بين العرب وبين العالم تظهر آثارها في كل نواحي الحياة.
من غير المرجح أن تأخذ السلطات السودانية في الاعتبار الدروس العميقة التي قدمتها الثورات العربية في الأعوام الثمانية الماضية عن أهمية الإصلاح والمشاركة السياسية وتوسيع قاعدة أنظمة الحكم، بل يغلب على الظن أنها ستعمد إلى النهج ذاته الذي أجهض تلك الثورات وقلب بعضها حروباً دموية مدمرة. وحتى الآن يبدو أن ما في جعبة السلطات السودانية من حجج لرفض مطالب المتظاهرين، لا يختلف البتة عن تلك التي استخدمتها حكومات عربية أخرى امتنعت عن التقدم نحو الحوار والإصلاح وساهمت في تدمير بلدها على رؤوس مواطنيه كي لا تخرج من نعيم السلطة وجاهها.