خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

كلمة طالما حيرتني

من الأفلام العراقية الكلاسيكية فيلم «من المسؤول؟»، الذي تقوم فيه الممثلة المبدعة ناهدة الرماح بدور البنت التي اغتصبها أحد المسؤولين. «المسؤول» من الكلمات التي شاعت في لغتنا المعاصرة، وهي كلمة تحيرني، وتحملني على التفكير في أمرها. وفي أكثر الأحوال، أجدها تقع في غير مكانها؛ نسمعها ونقرأها ونواجهها في كل مناسبة: صرح مسؤول من وزارة كذا، ولدى الاستفسار من المسؤولين في الإدارة، وهلم جرا. نقول ذلك ونحن نعلم جيداً أنهم غير مسؤولين بتاتاً؛ من يجرؤ على مساءلتهم أو محاسبتهم؟ المنطق والعقل السليم يقتضي أن نقول: صرح لا مسؤول من الوزارة الفلانية، ولدى الاستفسار من اللامسؤولين في الإدارة، تبين كيت وكيت.
خطرت لي كل هذه الأسئلة بشأن هذا الفيلم؛ كيف يمكن أن تصف ذلك الرجل بالمسؤول؟ لو كان مسؤولاً لحاكموه ورجموه. كان على المؤلف أن يقول «من اللامسؤول؟». جرني ذلك إلى متابعة الموضوع واستقصائه: يعرف قاموس «محيط المحيط» المسؤولية بأنها «عند أرباب السياسة، هي الأعمال التي يكون الإنسان مطالباً بها»؛ هذا تعريف ينسجم مع المفهوم القرآني.
ولكن أياً من هؤلاء المسؤولين يلتزم حقاً بما يقوله، أو يعد به، أو يفرضه عليه القانون وتمليه التعليمات والأخلاق؟ بيد أن صاحب «محيط المحيط» يعطي أيضاً معنى آخر للمسؤولية، حيث يقول إن السؤال هو طلب الأدنى من الأعلى، مع الخضوع. لاحظوا موسيقية الكلمة الأخيرة (مع الخضوع)؛ يا لها من كلمة جميلة! يظهر بجلاء أن بعض مسؤولينا قد قرأوا هذا القاموس الجليل، وقرروا الأخذ بهذا الفرع من معنى المسؤولية؛ إنها تعني أن نتوسل بهم، ونفعل كل شيء يعبر عن خضوعنا غير المشروط أو «المسؤول» لهم.
من هذا المنطلق، شاع بيننا في هذه الأيام اصطلاح «من منطلق المسؤولية». شاع ذلك بصورة خاصة على ألسنة الكتاب و«المسؤولين» في بعض البلدان العربية؛ تسمعهم يقولون: قررنا القيام بكذا وكذا، وأجرينا المفاوضات، ووقعنا على كذا وكذا... من منطلق المسؤولية. لا أدري أين هي هذه المسؤولية. كل هذه التصرفات الرعناء، والمعارك التي هلك بها ألوف الشباب، ودمرت المدن، وأحرقت البساتين، وشردت الناس، كلها من منطلق المسؤولية! لماذا لا نكون صريحين في كلامنا، فنقول: «من منطلق اللامسؤولية».
كلما تصفحت قاموس «المحيط»، تصفحت أيضاً قاموس «أوكسفورد» الجديد. ما يقابل كلمة «مسؤول» بالعربية كلمة «RESPONSIBLE» بالإنجليزية؛ يفسرها القاموس عندهم بأنها تعني: المطالب بالحساب والواجب. ولكن الطريف في الاستعمال الإنجليزي أنهم اشتقوا اصطلاح «RESPONSIBLE» من كلمة «RESPONSE»، التي تعني «الإجابة والاستجابة». الاشتقاق عندنا في اللغة العربية من «السؤال»، وعندهم باللغة الإنجليزية من «الجواب»، وشتان ما بين بين، كما يخيل لي. والعلم عند الله وحده.