حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

التاريخ يكتبه الإعلام الجديد

مقولة «التاريخ يكتبه المنتصر» صارت من الآثار القديمة توضع على أرفف المتاحف إلى جوار الآثار الفرعونية والسريانية والإغريقية والرومانية، فالتقنية الحديثة والإعلام الجديد بكل منصاته ومحطاته نَسَفَ «احتكار المنتصر في كتابة التاريخ» فجعلها قاعاً صفصفاً!
تخيلوا الفارق بين الإعلام المصري في الخمسينات من القرن الماضي حين كانت صحافته ومذياعه وتلفازه تحتكر التاريخ وترسمه، والعرب من المحيط إلى الخليج «دايخ» تحت تأثير التاريخ الذي كان يكتب في ذلك الوقت. لم يكن حينها للجماهير المستهدفة حول ولا طول سوى الإنصات للمذياع الوحيد والصحافة الوحيدة والتلفاز الوحيد، والآن صار التاريخ يكتبه كل أحد وفي كل حال وفي كل زمن، وأصبحت الهواتف الجوالة أكبر أدوات «تدوين التاريخ»، ناهيك بالكاميرات الثابتة والمتحركة، والكاميرات «درون» التي نبت لها جناحان تطير بهما فتخترق الخصوصيات والعموميات، وما زال في رحم التقنية كثير مما لا يخطر على قلب بشر.
وحتى في التاريخ القديم لم تكن نظرية «التاريخ يكتبه المنتصر» صحيحة دائماً، فكل المنتصرين، مستبدهم وعادلهم، برهم وفاجرهم، وإن انتشوا بكتابة التاريخ في حقَبهم، فلا محالة أن تنتصر الحقيقة في آخر مطاف التدوين، فانتصارات المغول والروس الشيوعية والمستعمرين قديماً وحديثاً والعثمانيين، وقبلهم الأمويون والعثمانيون كتبوا التاريخ وكتبه لهم بعض حاشيتهم، لكن ومع قلة ذات اليد وصعوبة التدوين ونشره وترويجه، انتصرت الحقيقة في آخر المطاف ووصل إلينا تاريخ الأمم والزعامات بحلوها ومرها، عجرها وبجرها.
إذن، من أين وصلت إلينا مقولة «التاريخ يكتبه المنتصر»؟ ينسبها البعض إلى المتطرف اليميني الفرنسي روبار برازياك الذي عرف بنشاطه مع النازيين، كما عُرف بمواقفه المتطرفة التي عبر عنها في النشريات التي أشرف عليها، وقيل إنه أطلقها حين حُكم عليه بالإعدام سنة 1945 بتهمة الخيانة العظمى، وبعضهم نسبها إلى المفكر اليهودي الألماني والتر بنيامين، وفي كل الأحوال فمن ينظر إلى الأحداث الدرامية على كوكبنا يظن أن أصدق نظرية في تدوين التاريخ هي التي تقول «التاريخ يزيفه المنتصر»، ولطالما ردد رواد ونجوم ومستخدمو «السوشيال ميديا» عبارة «هذا تزييف تاريخ نحن شهوده»، وهي من أكبر صفاقات وقلة حياء مزيفي التاريخ، لأن تزييف التاريخ الذي يكتبه المنتصر كان مهضوماً حين كان يستفرد بالإعلام، لكن حين دخل في كتابة التاريخ من هبَّ ودبَّ ومشى ودرج، فقد صار تصديق مزيفي التاريخ أن بمقدورهم كتابة التاريخ لأنهم انتصروا في بعض معاركه مبعث سخرية واحتقار.