فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

نحتاج إنسانية أكثر وآيديولوجيا أقل

كتبنا في استفتاء ««الشرق الأوسط» حول أهم الأحداث الثقافية عام 2011 عن حيرة المثقف العربي أمام الزلزال الذي لا يزال يجتاح العرب، فهذا المثقف، كغيره من البشر، يبدو وكأنه أخذ على حين غرة بقوة هذا الزلزال وما يحدثه من عملية هدم هائلة لبنى ثقافية تصورناها راسخة لكثرة مكوثها في الأرض.. وشاهدناها تتهاوى أمام أعيننا في أكثر من مكان، وقد تتهاوى قريبا أو بعيدا في أمكنة أخرى. واعتبرنا أن الربيع العربي - ولا نزال نصر على التوصيف، على الرغم من كل العواصف التي جلبها معه - لا يزال في اعتقادنا أهم حدث يهيمن على حياتنا الثقافية بظلاله الكثيفة، وقد يستمر طويلا، فالمهمة لم تنته، والرسالة لم تصل، والطريق طويل ويطول. كان الهدف ولا يزال من تلك الخلخلة الكبرى ليس هو إزاحة هذا الحاكم أو ذاك، أو استبدال نظام حكم بغيره، وإنما تهديم قيم اجتماعية وثقافية راكمت عناصرها بالضرورة الأنظمة الحاكمة على مدى أكثر من نصف قرن، وفي مقدمتها تحويل الفرد من قيمة إنسانية كبرى إلى مجرد كائن هلامي بلا ملامح سوى ملامح القهر والخوف حتى من نفسه. لقد تحول الخضوع إلى قيمة ثقافية واجتماعية، تنخر في أجساد المجتمعات العربية، حتى كأنما استبطنتها، وأصبحت جزءا من وعيها الباطن. وعلى هذا الأساس، بنى الطغاة هالاتهم المزيفة، وأوصلوها إلى مصاف المقدس الذي لا يمكن المساس به. وهكذا تحولنا، حتى في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، إلى بشر معوقين، بانتظار قرارات من فوق تحدد لنا مصائرنا، وطريقة معيشتنا.
لقد تخلصنا من بعض الطغاة، ولكن الثقافة التي أشاعوها خلال عقود، لا تزال موجودة، أو تعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة، متسربة إلى كتاباتنا وخطاباتنا الثقافية والإعلامية حتى من دون أن ندري أحيانا. ولا يمكن التخلص من ذلك إطلاقا من دون بناء ثقافة بديلة، حقيقية تستند إلى المقومات الأساسية التي راكمتها الحضارة الإنسانية عبر قرون، وفي مقدمتها الدفاع الذي لا يكل عن حق الفرد الإنساني في خياراته الحياتية من دون إكراه أو وصاية، وتوفير مناخ آمن ملائم لتطوره الشخصي ثقافيا واجتماعيا. مثل هذه الثقافة لم تحقق بعد.
ومن المستحيل تحقيقها من دون بناء ثقافة بديلة.. ثقافة حقيقية تضع حق الفرد في الحياة والتعبير، واختيار قناعاته الشخصية، ونمط معيشته.. ثقافة تمتد أفقيا في كل مناحي المجتمع، وتضع حق الإنسان الأساسي في أول مفردات برنامجها الثقافي. نحن بحاجة إلى منورين كبار لا نزال نفتقد وجودهم للأسف. لكن التغيرات الكبرى، سلبية كانت أم إيجابية التي نمر بها كفيلة بتغيير هذا الواقع، كما حصل طوال التاريخ. لقد تأخرنا طويلا، وقد نتأخر أكثر، ولكننا لسنا استثناء من كل البشر.
إنه مشهد ثقافي طويل، كما يعبر الزميل الشاعر جمال القصاص في تغطيته المصرية في هذه الصفحات. ولكنه ليس مشهدا مصريا فقط، بل ممتد من الخليج حتى المحيط كما يقال، وقد يستمر كذلك لأمد لا يمكن التنبؤ به، ولكننا قد نتفق جميعا على أن هناك شيئا قد حدث، وأننا لا نستطيع أن نتجاهل أن تاريخنا قد انقسم إلى ما قبل «الربيع العربي» وما بعده. غير أن إدراكنا ذلك لا يكفي ما لم يتحول إلى ممارسة حقيقية لا تزال بعيدة جدا.
ثقافتنا العربية أمام مفترق خطير. والخلاص يكمن في إعادة النظر بخطابنا الثقافي، الذي غيب في مجمله الإنسان كقيمة عليا بسبب الارتهان لهذا الحاكم أو ذاك، أو بسبب الوعي الآيديولوجي الزائف، الذي يراهن على أوهامه في انتظار المخلص الذي يأتي من فوق، ناسفا بذلك كل خطابه النظري حول الحرية والتنوير، والحق الإنساني في الاختيار الحر.
نحن بحاجة إلى إنسانية أكثر وآيديولوجيا أقل في خطابنا الثقافي.
هذه هي المهمة الكبرى المطروحة أمام النتاج المعرفي العربي في المقبل من الزمن.