سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«ذرا» بمعنى «ذرى»

كان أحد الزملاء في الماضي يثير أعصابي على نحو شبه مدروس أو مخطط له. يتصل بي من روما وأنا في نيويورك، غالباً في ليل المدينة، لكي يقول لي إن بطرس هو أخٌ لجبران خليل جبران وليس شقيقه. أو أن مريانا، شقيقته الكبرى وليست الصغرى.
وحرصاً على الآداب العامة، أضرب رأسي بالجدار بدل أن أقول للزميل إنه يرمي ذبابة في وعاء نظيف. صحيح أن الفرق بين الأخ والشقيق مهم، لكن ألم يلحظ في كل البحث المكتوب سوى هذا الخطأ؟ وهل يستحق التصحيح اتصالاً هاتفياً من نهار روما إلى ليل نيويورك؟
الصح جميل، ولكن الخطأ غير المؤذي ليس كارثة. فماذا يحدث للغة والناس والشعوب إذا قلت «سائر الفرقاء» وليس «سائر الأفرقاء»؟ أو «كافة الرجال» بدل «الرجال كافة»؟ لا شيء. لكن الصحيح أفضل. ونحن الذين نعيش بهذه اللغة ومنها، يحكمنا مع العمر هوس الخطأ واللحن.
ولكن هل نحن على حق؟ قرأت كتاب «بناة العالم» للنمساوي ستيفان زفايك (دار المدى، ترجمة محمد جديد، 736 صفحة) فاستوقفتني تهجئة «ذرا» بدل «ذرى». قلت، خطأ مطبعي عابر. لكنه تكرر. ثم تكرر. يا للهول. ومضيت أقرأ نصاً من أجمل نصوص الأدب والفكر. ويبدو أن الترجمة تمّت عن النص الألماني. وسرى الانسياب العربي مثل نهر الدانوب الذي يملأ حبر زفايغ وعروقه.
«بناة العالم» هو في انطباعي المتواضع أصعب نصوص زفايغ، لأنه أقرب إلى الشعر، وهو رحلة في أعماق وآفاق جبابرة الكتابة مثله. مئات المفردات والتعابير التي لا يحسنها سوى جبار آخر. ألوف الشواهد. ألوف الصور التشكيلية في رسم دواخل وعوامل النفس.
روائي عظيم يُبحر طويلاً في بحار أقرانه. يقرأ حقائقهم ويستقرئ مخيلاتهم. يدخل بيوتهم مثل الكناسين، لا يغفل ذرة غبار أو كتاباً منسياً تحت الرف أو قشرة ليمون. ولكن الكنّاس هنا هو هذا الخارق الذي تكنس عيناه سير الآخرين وتوضب فوضاهم وتعيد إلى عالمهم انتظام الحواس.
أمام هذه الترجمة الرقراقة، تتوقف سيادتك مصححاً: لا يجوز، لا يعقل، «ذرى»، تُكتب بألف مقصورة. يا للهول. وا لغتاه. وصحيحا. يا «محيط المحيط»، يا «لسان العرب». يا «صوت العرب».
الجميل هو الصحيح. أحياناً أجمل من ألقه ومقصورته نص عربي بإيقاع الدانوب وزرقته. وقليلاً ما يحدث ذلك في حرفة الترجمة. لكن لا شك أن «دار المدى» أتقنت أيما إتقان انتقاء الأعمال الكبرى ونقلها. وكنت أعتقد أن هذا النوع لا يلقى رواجاً كبيراً في العالم العربي. لكن مكتوب على «بناة العالم» أنها الطبعة الثالثة.