فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

صور سورية من الشتات

خلف الصور المأساوية لما شهدته سوريا في السنوات الماضية من اعتقال وقتل وتعذيب وتهجير وتدمير، تتشكل صور سورية أخرى لمجموعات وأفراد، تغلبوا على كارثتهم، وانخرطوا في حيوات أخرى، متجاوزين ظروفهم وصعوبات حياتهم بمساعدة ولو محدودة من دول فتحت أبوابها لتكون ملاذاً يحتمون به، ومنظمات إنسانية، قدمت ما استطاعت من مساعدات، وأفراد قدموا ما يستطيعونه من مساعدة وقدرات، لكنه وفي كل الأحوال، فإن إرادة السوريين في تجاوز ما لحقهم من تداعيات الحرب عليهم، كانت سبباً رئيسياً في رسم ملامح صور أخرى، حسب ما تؤكده وقائع في شتاتهم.
يرسم السوريون صورة عامة إيجابية الطابع في البلدان التي لجأوا إليها، وتلك هي خلاصة واقعهم في بلدان أوروبا الغربية، التي استقبلت نحو مليون من اللاجئين السوريين في السنوات الماضية، كانت لألمانيا الحصة الكبرى طبقاً لتصريحات المستشارة الألمانية ميركل، التي وصفتهم في بداية العام 2018، بأنهم «ثروة لليد العاملة في ألمانيا»، وقالت: «إن السوريين شعب مظلوم، ولديهم قدرات للعمل في الزراعة والصناعة بشكل ممتاز، لكنهم كانوا يحتاجون إلى فرص عمل وحرية حركة وإخراجهم من الخوف من ملاحقة أجهزة المخابرات والضغوطات عليهم».
وللحق فإن تصريحات مسؤولين ومؤسسات ألمانية عامة، أكدت أن السوريين من أكثر المجموعات الوافدة قدرة على الاندماج والتوافق مع الظروف الألمانية وسط استثناءات تخرق حقائق عامة، أبرزها سرعة اندماج الأطفال في البنية التعليمية وتفوقهم في مقاربة المستويات الفضلى مع أقرانهم الألمان، وفي سرعة تعلم اللغة الألمانية واندماج الشباب السوريين في التعليم المهني والعالي من جهة أو في بيئة العمل الألمانية، ولجهة احترام الكبار لنمط الحياة وقيم المجتمع الألماني. وهي معطيات تتقارب في محتوياتها مع واقع اللاجئين السوريين في البلدان الأخرى، كما في فرنسا وبلجيكا وغيرهما، ولا تقلل من أهمية هذه الحقائق بعض النزعات العنصرية، التي ظهرت وتنامت في البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة ضد اللاجئين، جعلتهم في برنامج المنافسة السياسية.
ولا تقتصر الصورة الإيجابية لسوريي الشتات على بلدان أوروبا، بل هي ممتدة إلى البلدان العربية. ففي كل من مصر وبلدان الخليج العربي ولبنان والأردن، يعيش نحو 3 ملايين نسمة، ترك وجودهم فيها فارقاً ملموساً، سواء من حيث وجودهم أم لجهة نشاطاتهم. فإضافة إلى التزامهم التوافق مع الحياة العامة، ولا سيما نمط الحياة ومحتوى القانون، فقد انخرطوا في النشاط الاقتصادي العام طالما استطاعوا، ولعل بين الأمثلة الأبرز انخراطهم في قوة العمل، كما في النشاطات التجارية والصناعية والزراعية والحرفية في الأردن ولبنان ومصر، وقد سجلت الأخيرة حضوراً سورياً ملموساً لمستثمرين سوريين في قطاع الغزل والنسيج، وهو بين أهم أنشطة الصناعة المصرية؛ حيث وصل عدد المؤسسات السورية في هذا القطاع نحو 500 مؤسسة، كما سجلوا فارقاً نوعياً في افتتاح المطاعم ومحال صناعة الحلويات في كل من مصر والأردن.
وتتجاوز صور السوريين في الشتات ما سبق، وصولاً إلى الواقع التعليمي. ويكشف تقرير عن التعليم الرسمي للسوريين في لبنان، أن عدد التلاميذ يفوق 200 ألف تلميذ، يتم تعليمهم بتعاون بين المؤسسة الرسمية اللبنانية وعدد من المؤسسات والجهات الدولية المانحة، وحسب المدير العام لوزارة التربية، فإن «التلاميذ السوريين سجلوا نجاحات ملحوظة في الامتحانات الرسمية. فنتائجهم جاءت أقل بنقاط قليلة من اللبنانيين ومن المستوى العالمي»، و«نسبة بقائهم في المدرسة مطابقة للمعدلات العالمية». ويضيف التقرير في وصف التلاميذ «أنهم مثابرون وأكثر التزاماً من اللبنانيين. كما أنهم يتابعون الدرس في كتب متخصصة بمستوى يختلف عن مناهج التعليم اللبنانية».
وتقول إحدى معلماتهم: «يتميز السوريون بقدرتهم على التأقلم مع الدراسة بنسبة مائة في المائة. وهم ملتزمون بالمدرسة أكثر من التلاميذ اللبنانيين في المدرسة الرسمية»، وتضيف: «هناك نوع من الفوضى في سلوكهم أثناء اللعب. لكن يمكن السيطرة على الأمر، فهم يتميزون باحترام المدرسين والالتزام بالقواعد والإرشادات».
وتبدو صور السوريين في تركيا إيجابية على نحو عام. إذ إنه برغم بعض التقيدات الرسمية حول دخول السوريين إلى تركيا، وتنقلهم بين المحافظات، وحصولهم على أجور أقل وساعات عمل أطول، فإن شروط حياتهم العامة مقبولة (باستثناء المقيمين منهم في مخيمات اللجوء). الأمر الذي دفع مئات آلاف السوريين للانخراط في سوق العمل التركية بطريقة «كيفية»، ودون الخضوع لقوانين العمل والتأمين والضمان الصحي، ورغم عسف هذه السياسة، فقد أخذ عشرات آلاف السوريين فرصة ممارسة عمل يحميهم من العوز والجوع، وفرصة إقامة مشروعات صغيرة، بينها متاجر صغيرة ومحال خدمات وغيرها، وطبقاً لتقارير تركية، فإن عدد الشركات التي أسسها سوريون قارب 10 آلاف شركة، تعمل في أنشطة متعددة، بينها شركات بيع الجملة والعقارات والإنشاءات وغيرها، ولاحظ تقرير تركي أن رجال الأعمال السوريين أسهموا حتى العام 2017 بتوفير ما يزيد على 100 ألف فرصة عمل في تركيا.
خلاصة القول، فإن صوراً سورية كثيرة في الشتات، تؤكد تجاوز تداعيات الكارثة التي سببها نظام الأسد وحلفائه وعصابات التطرف والإرهاب، التي عملت طوال السنوات الماضية على إشاعة القتل والاعتقال والتهجير للسوريين، وأنهم برغم الظروف الصعبة يصنعون صوراً إيجابية لحياتهم، تعكس تقدمهم في أماكن وجودهم، وتحسن حياتهم. والأهم مما سبق، أنها تدعو العالم للصحو من غفوته، ليضع حداً لحرب مستمرة على السوريين، ويقدم مساعدته من أجل حل للقضية السورية، وإعادة بناء سوريا جديدة، توفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.