حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

مائة عام على أول تحرك استقلالي لبناني

قبل 100 عام من اليوم، وبالتحديد في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 1918 وجّه آباء القضية اللبنانية نداء من مصر إلى الشعب اللبناني جاء فيه: «انهض أيها الشعب اللبناني نهضة الرجل الواحد واطلب من الدول العظمى حريتك كاملة واستقلالك مطلقاً...». ويضيف النداء: «الأحرى بنا نحن معشر اللبنانيين أن نكون في طليعة المطالبين بهذا الحق الذي هو من الحقوق الطبيعية للأمم؛ لأن لنا من تاريخنا ومن استقلالنا ما يعزز أمانينا ويبشرنا بالنجاح الأكيد».
ويستطرد نداء «الاتحاد اللبناني»: «لا تجعل أيها الشعب الحر فارقاً ولا مميزاً في الإعراب عن إيمانك بين الطوائف والمذاهب، ولا بين الأقاليم والأحزاب، بل كن لساناً واحداً في الطلب ويداً واحدة في العمل. فالاستقلال التام يوّحد جميع الوطنيين ويؤاخي بين جميع السكان فتسود المساواة بين الجميع: مساواة في الحقوق ومساواة في الواجبات».
وينتهي النداء إلى إطلاق وعد بالعمل والمثابرة حتى إنجاز الاستقلال الكامل الذي يجب أن تكفله «معاهدة دولية تضمن لنا حيادنا فنكون أصدقاء الجميع، فلا يدخل في عراك ولا يكون غرض العدوان، بل يكون بتلك الضمانة (سويسرا الشرق) تظلله الراحة ويخيم عليه النعيم».
قبل مائة عام حمل نداء «الاتحاد اللبناني» التأكيد بأن «الاستقلال يكون مطلقاً عن كل سيادة خارجية». ولأننا بلد صغير يجب أن نحرص على أفضل العلاقات مع الدول الصديقة فعلاً للبنان، ومصلحة دولة الاستقلال «أن تكون محايدة تدافع عن مصالح شعبها ضد كل من يعتدي عليها». ووضع النداء اليد على الجمر بدعوته اللبنانيين «للوحدة ونبذ القسمة طوائف ومذاهب ومناطق»، مشدداً على المساواة في الحقوق والواجبات، «لأن في ذلك القاعدة المتينة للاستقرار».
اليوم بعد 75 سنة على الاستقلال يواجه لبنان أخطر التحديات الوجودية، وأولها من العدو الإسرائيلي الذي وضع يده على بعض مياه لبنان ويطمع في أرضه وثرواته في البحر، ويستبيح الأجواء كل يوم... رُفع بوجهه السلاح عندما احتل الأرض، وتمت المواجهة بالتمسك باتفاق الهدنة للعام 1949، وبالشرعية الدولية وتحديداً بالقرار الدولي 1701 ووجود اليونيفيل البري والبحري منذ العام 2007، ويواجه كذلك بالتزام لبنان الموقف العربي الداعم للحق الفلسطيني، الحق بالدولة والحق بالقدس والحق بالعودة.
اليوم بعد 43 سنة على بدء حروبنا الأهلية، وبعد 13 سنة على إنجاز الاستقلال الثاني بإخراج جيش احتلال النظام السوري وإسقاط جمهورية الخوف، لبنان الدولة والكيان، مهدد من المشروع التوسعي للنظام الإيراني الذي تمدد في كل المنطقة ويجاهر أركانه بأن بيروت واحدة من العواصم العربية الأربع التي تشكّل مناطق النفوذ الإقليمي لطهران. وما كان ذلك سهلاً لولا الدور الذي لعبه ويلعبه «حزب الله» القوة المسلحة التي استثمر فيها النظام الإيراني الأموال الطائلة والخبرات المتنوعة والتسليح المفتوح، ورغم انكشاف أهداف هذه الجهة التي تباهى قادتها بأنهم جنود في مشروع «الولي الفقيه» كان هناك على الدوام تعمد متكرر لتجاهل الخطر، وتوجهات طوباوية بدعوة هذا «الحزب» إلى الخروج من المحاور الإقليمية والانخراط في مشروع الدولة بوصفها الضامن الوحيد لمصالح وأمن كافة الفئات اللبنانية (...)، ولم تتوقف أي جهة سياسية جدية عند وقائع المباحثات اللبنانية التي استضافتها الحكومة الفرنسية في العام 2005 في «سان كلو» عندما أبلغ ممثل «حزب الله» المشاركين في ذلك الحوار أن «الحزب» سيحل مكان النظام السوري في إدارة البلد!!!
منذ حرب تموز (يوليو) في العام 2006 بدأ القضم العلني للسلطة واتسع عمودياً وأفقياً نهج الهيمنة على مفاصل قرار البلد، وجرى وضع اليد على الكثير من عائدات الدولة، وتعوّد الناس على ما يمكن وصفه بتحول جذري في النظام السياسي، فاستحال نظام محاصصة بين متزعمي الطوائف، لتشكل «التسوية السياسية» في العام 2016 نقطة التحول في الانقلاب الكبير، لأنه بعيداً عن الوعود البراقة بوقف الانهيار في مؤسسات الدولة، وتعهد تعاون أطراف تلك التسوية على «تحييد لبنان» عن حرائق المنطقة، فإن جوهر العملية كان استيلاء «حزب الله» على قرار البلد وتحوله إلى المرجعية الأولى. وتأسيساً على هذا التحول نحت السياسة الرسمية منحى الاستجابة لمتطلبات أجندة طهران وضمناً دمشق، وليس أدل على ذلك إلاّ الممارسات الفجة من «حرب الجرود»، حيث تم منع الدولة من استثمار الانتصار المحقق للجيش، وبعد ذلك البصم على قانون «حزب الله» للانتخابات وما نجم عنه من استحواذ الفريق الممانع على الأغلبية النيابية، إلى وضع لبنان والجبل تحديداً على حافة صدام أهلي على خلفية إصرار نصر الله على توزير واحد من سُنة «الحزب» في الحكومة، ليس إحقاقاً لحق مهدور بقدر ما تهدف الخطوة لكسر الوضع السني وترويع شريحة أساسية لطالما شكلت رافعة للسلم الأهلي والدولة. فانطلقت حملة استفزاز كيدية بوجه الرئيس الحريري والنائب جنبلاط وضعت في التداول قاموس الفتنة الذي ساد عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وبين تحريض الأبواق والإيغال في الشتائم وترهيب السلاح الخارج على القانون والبلطجة، يتم «إفهام» اللبنانيين أنه لم يعد من حقوقهم لا التفكير بحرية ولا العيش بحرية ولا اتخاذ قراراتهم السياسية تحت سقف القانون بحرية!
يواجه لبنان اليوم تحدي الخروج من دائرة نفوذ النظام الإيراني، تحدي الحد من قدرة «حزب الله» على استخدام السلطة كواحدة من أدوات مواجهة العقوبات، والكل يعلم أن هذا المنحى سيعرض مصالح البلد لعقوبات مدمرة، مع ملاحظة نجاح طهران وميليشياتها المحلية في وضع لبنان على حافة هاوية اهتزاز السلم الأهلي. لقد أثبتت التجربة في العراق وسوريا واليمن أن إيران تستخدم الحرب الأهلية من أجل وضع يدها على بلدان المنطقة ومقدراتها. والخطر كل الخطر هو في تعامي بعض من هم في موقع المسؤولية عنه، وسياسة النعامة التي يتبعها البعض وتواطؤ البعض الآخر أقصر طريق إلى الكارثة، كارثة فقدان الاستقرار وخسارة البلد...
قبل 100 سنة فتح طليعيون من «الاتحاد اللبناني» معركة الاستقلال وتحقيق السيادة اللبنانية، وحققت التضحيات الكثير، لكن هذه المعركة ما زالت مستمرة، لأنها معركة الدفاع عن البلد، إنما مع فارق أن التحديات باتت أكبر من أي وقت، إنما مع الغليان الواسع ووجود أكثرية وفية للقضية اللبنانية لم تستقل من دورها في الرابع عشر من مارس (آذار) 2005، هناك استحالة لحجز الناس في القمقم. هذا لم يحصل بالأمس ولن يحصل لا اليوم ولا في الغد، وهذه الأكثرية تقلق المتكالبين على البلد، لأنها الممر الإلزامي لاستعادة الاستقلال والسيادة والحفاظ على الدستور والوفاق وحماية النسيج اللبناني والعيش المشترك للبنانيين.